للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فلما رأى ذلك الفتية، حزنوا حزنا شديدا فصلوا وصاموا واشتغلوا بالتسبيح والدعاء لله تعالى، وكانوا من أشراف الروم، وكانوا ثمانية فتفرقوا، وتضرعوا، وجعلوا يقولون «١» : رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً

، اللهم اكشف عن عبادك المؤمنين، هذه الفتنة وادفع البلاء والغم عن عبادك، الذين آمنوا بك، حتى يعلنوا عبادتهم إياك، فبينما هم على ذلك إذا أدركهم الشرطة، وكانوا قد دخلوا في مصلى لهم، فوجدوهم سجدا على وجوههم يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى، ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفتنته.

فلما رآهم أولئك الكفرة، قالوا لهم: ما خلفكم عن أمر الملك؟ انطلقوا إليه. ثم خرجوا من عندهم فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس، فقالوا: نجمع الجميع وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يسخرون بك ويعصون أمرك! فلما سمع ذلك منهم أتى بهم وأعينهم تفيض من الدمع، معفرة وجوههم في التراب، فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا الذبح للآلهة التي تعبد في الأرض، وأن تجعلوا أنفسكم كغيركم؟ فاختاروا إما أن تذبحوا لآلهتنا كما يذبح الناس، وإما أن أقتلكم؟ فقال مكسلمينا، وكان أكبرهم: إن لنا إلها ملأت السموات والأرض عظمته لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً

«٢» ولن نقر بهذا الذي تدعو إليه أبدا، ولكنا نعبد الله ربنا، له الحمد والشكر والتسبيح من أنفسنا خالصا أبدا، إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير، فأما الطواغيت وعبادتها فلن نعبدها أبدا، اصنع ما بدا لك.

ثم قال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال له، فلما قالوا ذلك أمر فنزع منهم الملبوس الذي كان عليهم من لبوس عظمائهم، وقال: إن فعلتم ما فعلتم فإني سأؤخركم وأفرغ لكم وأنجزكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم شبابا حديثة أسنانكم، فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا، تتذاكرون فيه وتراجعون عقولكم، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت عنهم، ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم التي هم بها قريبة منهم، لبعض أموره فلما علم الفتية أن دقيانوس خرج من مدينتهم، بادروا قدومه وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم فائتمروا بينهم، أن يأخذ كل رجل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها، ثم يتزودوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة، في جبل يقال له منحلوس، فيمكثون فيه ويعبدون الله تعالى، حتى إذا جاء دقيانوس، أتوه فقاموا بين يديه، فيصنع بهم ما شاء. فلما قال ذلك بعضهم لبعض، عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه، فأخذ نفقة فتصدقوا منها، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم، واتبعهم كلب كان لهم. حتى أتوا ذلك الكهف في الجبل فلبثوا فيه.

وقال كعب الأحبار: مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه، فعاد ففعلوا ذلك مرارا، فقال لهم الكلب: ما تريدون مني؟ لا تخشوا جانبي فأنا أحب أحباب الله. فناموا حتى أحرسكم.

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هربوا ليلا من دقيانوس بن حلانوس حين دعاهم

<<  <  ج: ص:  >  >>