للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وجه الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل، وأما الغداة فأسمع كل إنسان يذكر أمر عيسى ابن مريم ولا يخاف. ثم قال في نفسه: لعل هذه المدينة ليست التي أعرفها، أسمع كلام أهلها ولا أعرف أحدا منهم. والله ما أعلم مدينة أقرب من مدينتنا، ثم قام كالحيران لا يتوجه وجها، ثم لقي فتى من أهل المدينة، فقال: يا فتى ما اسم هذه المدينة؟ فقال: افسوس. فقال في نفسه: لعل بي مسا أو أمرا أذهب عقلي، والله يحق لي أن أسرع إلى الخروج منها، قبل أن أخرج منها ويصيبني سوء فاهلك.

هذا الذي حدث به تمليخا أصحابه حين تبين له حالهم. ثم إنه أفاق فقال: والله لو عجلت الخروج من المدينة، قبل أن يفطن بي لكان أكيس بي، فدنا من الذين يبيعون الطعام، فأخرج الورق التي كانت معه، فأعطاها رجلا منهم فقال: يا عبد الله بعني بهذه الورق طعاما، فأخذها الرجل، ونظر إلى ضرب الورق ونقشها، وعجب منها ثم طرحها إلى رجل من أصحابه، فنظر إليها، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم، من رجل إلى رجل، وهم يعجبون منها، ثم جعلوا يتشاورون من أجله، ويقول بعضهم: إن هذا الرجل قد أصاب كنزا خبيئا في الأرض منذ زمان ودهر طويل، فلما رآهم يتشاورون من أجله فرق فرقا شديدا، وحزن حزنا عظيما، وجعل يرتعد ويظن أنهم فطنوا به وعرفوه، وإنما يريدون أن يحملوه إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرفونه، فقال لهم، وهو شديد الفرق: اقضوني حاجتي، فقد أخذتم ورقي، وإلا فامسكوا طعامك فلا حاجة لي فيه.

فقالوا له: من أنت يا فتى وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأولين وأنت تريد أن تخفيه منا، فانطلق معنا وشاركنا فيه، يخف عليك ما وجدت، فإنك إن لم تفعل نأت بك السلطان فنسلمك إليه فيقتلك، فلما سمع قولهم، عجب في نفسه وقال: قد وقعت في كل شيء أحذر منه، ثم قالوا: يا فتى والله أنك لا تستطيع أن تكتم شيئا وجدته، ولا تظن في نفسك أن ستخفى عليك. فجعل تمليخا لا يدري ما يقول، وما يرجع إليهم وفرق حتى ما يحير إليهم جوابا.

فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطوقوه في عنقه، ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة مكبلا، حتى سمع به كل من فيها. فقيل: أخذ رجل عنده كنز، واجتمع عليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم، فجعلوا ينظرون إليه ويقولون: والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة، وما رأيناه فيها قط وما نعرفه، فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم، مع ما سمع منهم. فلما اجتمع عليه أهل المدينة، فرق وسكت ولم يتكلم، ولو قال إنه من أهل المدينة لم يصدق. وكان مستيقنا أن أباه وأخوته بالمدينة، وأن حسبه في أهل المدينة، من عظماء أهلها، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا، وقد استيقن أنه عشية أمس، كان يعرف كثيرا من أهلها، وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحد.

فبينما هو قائم كالحيران ينتظر من يأتيه من أهله إما أبوه أو بعض إخوته، فيخلصه من أيديهم، إذ اختطفوه فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها، وهما رجلان صالحان، اسم أحدهما أرموس والآخر اصطفوس، فلما انطلق به إليهما، ظن تمليخا إنما ينطلق به إلى دقيانوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه. فجعل يلتفت يمينا وشمالا، وجعل الناس يسخرون

<<  <  ج: ص:  >  >>