وبعد أن وعد سبحانه من يهاجر بالظفر بما يحب، ومن وجدان السبل ميسورة أمامه، ومن سعة العيش- وعد من يموت فى الطريق قبل وصوله دار الهجرة بالأجر العظيم الذي ضمنه له عز وجل إذا كان يقصد بهجرته رضا الله ونصرة رسوله فى حياته، وإقامة سننه بعد وفاته، وكان مستحقا لهذا الأجر ولو مات بعد أن تجاوز عتبة الباب ولو لم يصب تعبا ولا مشقة، فإن نية الهجرة مع الإخلاص كافية لاستحقاقه له كما
فى الحديث «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»
فقال:
(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) وفى إبهام هذا الأجر وجعله حقا واجبا عليه تعالى إيذان بعظم قدره وتأكيد ثبوته ووجوبه، ولله تعالى أن يوجب على نفسه ما يشاء، وليس لغيره أن يوجب عليه شيئا، إذ لا سلطان فوق سلطانه.
وما أعظم الفارق بين هذا الوعد المؤكد وبين وعد تاركي الهجرة لضعف أو عجز بأنهم محل رجاء وطمع عند الله.
(وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان شأن الله الغفران أزلا وأبدا لأمثال هؤلاء المهاجرين الذين دعاهم إيمانهم لترك أوطانهم لإقامة دينه واتباع سبيله، والرحمة الشاملة لهم بعطفه وإحسانه.
روى ابن جرير عن ابن جبير «أنها نزلت فى جندب بن ضمرة وكان بلغه قوله تعالى- إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم- الآية وهو بمكة حين بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسلميها فقال لبنيه: احملوني فإنى لست من المستضعفين وإنى لأهتدى إلى الطريق، وإنى لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير وتوجهوا به إلى المدينة، وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم (موضع قرب المدينة) ولما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله ويقول: اللهم هذه لك وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم، أبايعك على ما بايع عليه رسولك، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله عنهم قالوا لبنيه مات بالمدينة فنزلت»