أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبهم من البشارة به ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره، كما يعرفون أبناءهم الذين يربّونهم ويحوطونهم بعنايتهم، فلا يفوتهم شىء من أمرهم، حتى لقد قال عبد الله بن سلام رضى الله عنه- وقد كان من أحبار اليهود- ثم أسلم: أنا أعلم به منى بابني، فقال له عمر رضى الله عنه: ولمه؟
قال: لأني لست أشكّ في محمد أنه نبىّ، أما ولدي فلعلّ والدته خانت، فقبّل عمر رضى الله عنه رأسه، فهذا اعتراف من حبر من أحبارهم هداه الله، كما اعترف بمثله تمنيم الداري من علماء النصارى (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي وإن فريقا منهم عاندوا وكتموا الحق الذي يعرفونه، من أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبىّ، وأن الكعبة قبلة، وأضاف الكتمان إلى فريق منهم، لأنهم لم يكونوا كلهم كذلك، إذ منهم من اعترف بالحق وآمن به واهتدى، ومنهم من كان يجحده عن جهل، لأنهم كفروا به تقليدا، ولو علموا به حق العلم لجاز أن يقبلوه.
(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي إن الحق هو ما أتاك من ربك من الوحى، لا ما يقول لك اليهود والنصارى، فالقبلة التي وجهك نحوها هى القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء، فاعمل بما أمرك ربك ولا تلتفت إلى أوهام الجاحدين، فتمترى في الحق بعد ما تبين.
والنهى في هذه الآية كالوعيد في الآية السابقة، موجه فيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد من كانوا غير راسخى الإيمان من أمته، ممن يخشى عليهم أن يغترّوا بزخرف القول من أولئك المخادعين الذين جعلوا همهم إشعال نار الفتنة بين المؤمنين.