(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي ولئن وافقتهم فيما يريدون، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم وحرصا على اتباعك والإيمان بك، بعد ما جاءك الحق اليقين، والعلم الذي لا شكّ فيه- لتكونن من جملة الظالمين- وحاشاك أن تفعل ذلك.
وتقدم أن مثل هذا من باب (إيّاك أعنى واسمعي يا جاره) فالمراد أنه لا ينبغى لأحد من أتباعك المؤمنين أن يفكر في اتباع أهواء القوم استمالة لهم، فإن الحقّ قوىّ بذاته، فمن عدل عنه وجارى أهل الأهواء، رجاء منفعة أو اتقاء مضرّة فهو ظالم لنفسه، ولمن سلك بهم هذا السبيل الجائر.
وإذا كان هذا الوعيد توجه لأعلى الناس مقاما عند ربه لو حاول اتباع الهوى استرضاء للناس بمجاراتهم على الباطل، فما ظنك بغيره ممن يتبع الهوى ويجارى الناس على شىء نهاهم الله عنه، فليعلم المؤمنون أن اتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح من الظلم العظيم الذي يوقع في مهاوى الهلاك، فكأنه قيل: إن هذا ظلم عظيم لا هوادة فيه مع أحد، فلو فرض وقوعه من أكرم الناس على الله لسحل عليه الظلم «وما للظّالمين من أنصار» فكيف بمن دونه ممن لا يقار به منزلة عند ربه؟
ولا شكّ أن سماع هذا الوعيد وأشباهه يوجب على المؤمن أن يفكر طويلا ويتأمل فيما وصل إليه حال المسلمين اليوم، وكيف إن علماءهم يجارون العامة في بدعهم وضلالاتهم وهم يعترفون ببعدها عن الدين، ولا يكون لهم وازع من نواهيه، وقوارعه الشديدة، وزواجره التي تخرّ لها الجبال سجّدا.
وأعجب من هذا مجاراتهم لأهواء الملوك والأمراء، حتى إنهم ليلفّقون لهم من الحيل والفتاوى ما يسترضونهم به، ويكون فيه إشباع لشهواتهم واتباع لأهوائهم.
(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) هذا كالدليل لما ذكر فى قوله: «لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» فكأنه قال: إن سبب العلم بأنه الحق،