من أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أسّ الدين وأصله، وأن من يطلب الدنيا ويجعل لها عناية خاصة ليس له في الآخرة من خلاق.
ولما كان محل التقوى هو القلوب لا الألسنة، ودليل ما في القلوب الأعمال لا مجرد الأقوال، ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أقوالهم على حقائق أحوالهم صنفان:
منافقون يظهرون غير ما يبطنون، ومخلصون في أعمالهم يبتغون مرضاة الله، ولا يريدون إلا وجهه.
[الإيضاح]
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ومن الناس فريق يعجبك قوله وأنت في هذه الحياة الدنيا، لأنك تأخذ بالظواهر، وهو منافق يظهر غير ما يضمر ويقول ما لا يفعل، فهو يعتمد على خلابة اللسان، فى غش المعاشرين والأقران، ويوهم أنه صادق الإيمان، نصير للحق خاذل للباطل، متّق لله في السر والعلن، مجتنب للفواحش ما ظهر منها وما بطن.
(وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أي ويحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول ويدعي.
(وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أي وهو قوى في الجدل لا يعجزه أن يغشّ الناس بما يظهر من الميل إليهم والسعى في إصلاح شئونهم.
والخلاصة- إن هذا الفريق يركن في خداعه للناس إلى أمور ثلاثة:
(١) حسن القول بحيث يعجب السامع ويملك لبه، بحيث لا يتهمه في صدقه.
(٢) إشهاد الله تعالى على صدقه وحسن قصده.
(٣) قوة العارضة في الجدل عند محاجة المنكر أو المعارض.
ومثل هذا الفريق يوجد في كل أمة وكل عصر وإن اختلفت حاله باختلاف العصور، فحينا ترى الواحد لا يغشّ بزخرف قوله إلا فردا أو أفرادا معدودين وحينا يتسنى له أن يخدع أمة وينكل بها تنكيلا، فترى الجرائد في عصرنا قد تكون سبيلا للغش، كما تكون أحيانا طريقا للنصح وإرشاد الأمة إلى ما فيه خيرها وفلاحها