بعد أن بين سبحانه طريق إرشاد المشركين وجدالهم بالخشن من القول، والمبالغة فى تسفيه آرائهم وتوهين شبههم بنحو قوله:«صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» وقوله: «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها» إلى أشباه ذلك- أردف هذا ذكر طريق إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأن يسلك معهم طريق الحجاج بالحسنى، ولا يسفّه آراءهم، ولا ينسب إلى الضلال آباءهم.
ذاك أن المشركين جاءوا بالمنكر من القول ونسبوا إلى الله ما لا ينبغى من الشريك والولد، أما أهل الكتاب فقد اعترفوا بالله وأنبيائه، لكنهم أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا إن شريعتهم باقية على وجه الدهر لا تنسخ بشريعة أخرى، فينبغى إقناع مثل هؤلاء بالحسن من القول، ولفت أنظارهم إلى الأدلة الباهرة الدالة على نبوته وصدق رسالته بما يكون لهم فيه مقنع، وبما لو تأملوا فيه وصلوا إلى الصواب، وأدركوا الأمر على الوجه الحق، إلا من ظلموا منهم وعاندوا ولم يقبلوا النصح والإرشاد، فاستعملوا معهم الغلظة فى القول، والأسلوب الجافّ فى الحديث، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويتأملون فيما يقنعهم من الحجج والبراهين.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم: آمنا بالذي أنزل إلينا من القرآن، وأنزل إليكم من التوراة والإنجيل، وإن إلهنا وإلهكم واحد، ونحن مطيعون له.
ثم ذكر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن، كما أن من أهل مكة من يؤمن به، وما يجحد به إلا من توغل فى الكفر، وعدم حسن التأمل والفكر، إذ لا ريب فى صدق رسوله، وأن كتابه منزل من عند ربه، فإن رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتعلم العلم، ولم يدارس إنسانا مدى حياته، يأتى بهذه الحكم والأحكام، وجميل الآداب، ومكارم الأخلاق، مما لم يكن له مثيل فى محيط نشأ به، ولا فى بلد كان يأويه- لمن أكبر الأدلة على أنه ليس من عند بشر، بل أوتيه من لدن حكيم خبير.