بعد أن ذكر جلت قدرته أن الناس فريقان فريق يريد بعمله الدنيا فقط، وعاقبتهم العذاب والوبال، وفريق يريد بعمله طاعة الله، وهم أهل مرضاته، والمستحقون لثوابه، وقد اشترط لنيلهم ذلك أن يعملوا للآخرة وأن يكونوا مؤمنين- لا جرم فصل الله فى هذه الآية حقيقة الإيمان والأعمال التي إذا عملها المؤمن كان ساعيا للآخرة، وصار من الذين سعد طائرهم، وحسن حظهم، ثم أعقب ذلك بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وبعدئذ أتبع ذلك بالأمر ببر الوالدين من قبل أنهما السبب الظاهر فى وجوده، وبالأمر بإيتاء ذوى القربى حقوقهم، ثم بالأمر بإصلاح أحوال المساكين وأبناء السبيل، لأن فى إصلاحهما إصلاح المجتمع، والمسلمون كلهم إخوة، وهم يد على من سواهم، ثم قفى على ذلك بالنهى عن التبذير، لما فيه من إصلاح حال المرء وعدم ارتباكه فى معيشته، وصلاحه إصلاح للأمة جمعاء، فما الأمم إلا مجموعة الأفراد، ففى صلاحهم صلاحها، ثم علمنا سبيل إنفاق المال على الوجه الذي يرضاه الدين، ويرشد إلى حسنه العقل، وبعدئذ نهانا عن قتل الأولاد خشية الفقر، وبين أن الكفيل بأرزاقهم وأرزاقكم هو ربكم، فلا وجه للخوف من ذلك، ثم تلا هذا بالنهى عن الزنا، لما فيه من اختلاط الأنساب، وفقدان النسل أو قلته، ووقوع الشغب والقتال بين الناس دفاعا عن العرض ثم بالنهى عن القتل لهذا السبب عينه، ثم بالنهى عن إتلاف مال اليتيم، ثم بالأمر بالوفاء بالعهد وهو العقد الذي يعمل لتوكيد الأمر وتثبيته، ثم بإيفاء الكيل والميزان، لما فى حسن التعامل بين الناس من توافر المودة والمحبة بينهم، وهذا ما يرمى إليه الدين، لإصلاح شؤون الفرد والمجتمع، ثم بالنهى عن تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل، فلا تتّبع ما كان يعمله الآباء اقتداء بهم من عبادة الأصنام تقليدا لهم، ولا تشهد على شىء لم تره، ولا تكذب، فتقول فى شىء لم تسمعه إنك قد سمعته،