(إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) أي إن الله جلت قدرته لا يرى من النقص أن يضرب المثل بالبعوضة فما دونها، لأنه هو الخالق لكل شىء جليلا كان أو حقيرا.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي فالمؤمنون يقولون ما ضرب الله هذا المثل إلا لحكم ومصالح اقتضت ضربه لها، وهى تقرير الحق والأخذ به، فهو إنما يضرب لإيضاح المبهم بجعل المعقولات تلبس ثوب المحسوسات، أو تفصيل المجمل لبسطه وإيضاحه.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا) الذين كفروا هم اليهود والمشركون وكانوا يجادلون بعد أن استبانت لهم الحجة وحصحص الحق، ويقولون ماذا أراد الله بهذه المثل الحقيرة التي فيها الذباب والعنكبوت، ولو أنصفوا لعرفوا وجه الحكمة في ذلك وما أعرضوا وانصرفوا (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) .
ثم أجاب عن سؤالهم بقوله:
(يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) أي إن من غلب عليهم الجهل إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقابلوه بالإنكار، فكان ذلك سببا في ضلالهم، ومن عادتهم الإنصاف والنظر بثاقب الفكر إذا سمعوه اهتدوا به، لأنهم يقدرون الأشياء بحسب فائدتها.
ومن المعلوم أن أنفع الكلام ما تجلّت به الحقائق، واهتدى به السامع إلى سواء السبيل، وأجلّه في ذلك الأمثال كما قال:(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) والعالمون هم المؤمنون المهتدون بهدى الحق.
وقد جعل الله المهتدين في الكثرة كالضالين، مع أن هؤلاء أكثر كما قال: