أثبت العلم حديثا أن الريح تحمل الغبار وما فيه من قارة إلى أخرى، فتحمله من إفريقية مثلا إلى أوروبا وهى مسافة أبعد مما بين مصر وأرض كنعان من بلاد الشام وهى بلا شك تحمل رائحة ماله منها رائحة، ولكن الغريب شم البشر لها من المسافات البعيدة، والإنسان إذا قيس بغيره من الوحوش والحشرات كان أضعف منها شما، فالكلب ذو حاسة قوية فى الشم حتى ليدرّبه الآن رجال الشرطة ويستخدمونه فى حوادث الإجرام من قتل وسرقة لإثبات التهمة على المجرمين، فيأتون بالكلب المعلّم فيشمّ المجرم ويخرجه من بين أشخاص كثيرين، ويرى ذلك رجال القانون دليلا قويا على إثبات الجريمة على من يرشد إليه، بل دليلا قاطعا فى بعض الدول.
والروائح منها القوى والضعيف، ومن أضعفها رائحة جسم الإنسان وعرقه وما يصيب ثوبه منها، ولكن ما نحن فيه من خوارق العادات ومن خواصّ عالم الغيب لا من السنن العادية والحوادث التي تتكرر من البشر.
وقد دلت الآية على أن يعقوب عليه السلام أخبر أنه وجد رائحة يوسف لما فصلت العير من أرض مصر، فعلينا أن نؤمن به لأنه معصوم من الكذب، وقد تبين صدقه بعد وليس بالواجب علينا أن نعرف كنهه أو نصل إلى معرفة سببه، ولكن إذا نحن قلنا إنه لشدة تفكره فى أمر ولده وتذكره لرائحته حين كان يضمّه ويشمّه- شعر بتلك الرائحة قد عادت له سيرتها الأولى- لم يكن ذلك مجانبا للصواب ولا معارضا للعقل ولا ناقضا لما يثبته العلم، أو قلنا بأنا نتقبل هذا بدون تعليل ولا تصوير لكيفية ذلك- لم نبعد، عن العقل ولا عن العلم، إذ لا خلاف بين العلماء فى أن ما يجهله الباحثون أضعاف ما يعرفونه.
وعلى الجملة فعلينا التسليم بما أخبر به دون حاجة للبحث فى كنهه أو صفته مادام ذلك داخلا فى حيز الإمكان.