(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي خلق الله الناس أمة واحدة مرتبطا بعضها ببعض في المعاش، لا تعيش إلا مجتمعة يعاون بعضها بعضا، وكل واحد منهم يعيش بعمله، لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن الوفاء بجميع ما يحتاج إليه، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته، وهذا ما يعبر عنه بقولهم «الإنسان مدنىّ بالطبع» .
ولما كانوا كذلك كان لا بد لهم من الاختلاف، إذ لا يمكنهم في هذه الوحدة أن يتفقوا على تحديد ذلك النظام، مع اختلاف الفطر وتفاوت العقول، وحرمانهم من الإلهام الذي يهدى كلا منهم إلى ما يجب عليه لصاحبه، فكان من لطف الله ورحمته أن يرسل إليهم الرسل مبشرين بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومنذرين بخيبة الأمل وحبوط العمل وعذاب الله إذا اتبعوا شهواتهم، ولم ينظروا في العاقبة.
وقال أبو مسلم الأصفهاني والقاضي أبو بكر الباقلاني: إن المعنى: إن الناس كانوا أمة واحدة على سنة الفطرة، تأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد والعمل، وتمييز الحسن من القبيح، والباطل من الصحيح بالنظر في المنافع والمضار، ولكن استسلام الناس إلى عقولهم بلا هدى إلهى مما يدعو إلى الاختلاف، فكثيرا ما حالت الأوهام بين الناس وبين الوصول إلى المراد من العقائد والأحكام.
فالعقل شاهد بأن العناية الإلهية سارت بالإنسان في جماعته كما سارت به في أفراده، فكما نشأ الفرد قاصرا في جميع قواه، نشأت الجماعة البشرية على ضرب من السذاجة لا تبلغ بها إلى تناول الشئون الرفيعة العالية، والمعاني السامية، وما زال هذا شأنه تربيه حوادث الكون، وتهذبه تجارب السنين والأيام، فاستعمل النحاس بعد الحجارة فى معايشه، وانتقل من بعد ذلك إلى الحديد، ثم ارتقى إلى استعمال البخار فالكهرباء.