وقد كان في طور قصوره لا يدرك إلا ما يصل إليه بالحس، ولا يعلم إلا المحسوس، ولم يزل كذلك حتى كشفت له تجارب السنين والأيام خطأه فيما يتوّهم، وعلّمته الحوادث ما لم يكن يعلم، فاستعدّ لفهم باطن ما عقل، وسرّ ما عرف، فجاءته الأنبياء تهديه لصلته بربه، وصلته ببني الإنسان، وكانوا له بمنزلة الرأس من البدن يبينون له الخير، ويبشرون كاسبه بأحسن الجزاء، وينذرون فاعل الشرّ بسوء المصير، بنار وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.
(وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي إن الله يبعث الأنبياء لينبهوا أقوامهم إلى ما غفلوا عنه، ويحذروهم عاقبة ما هم فيه من سيىء العادات، وقبيح الأخلاق، وشرّ الأعمال، حتى إذا تهيأت نفوسهم لقبول تشريع الأحكام أنزل الله الكتب لبيان تلك الأحكام بحسب استعداد تلك الأمم.
وفي الآية إيماء إلى أن الكتاب هو الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، فيجب على الحاكمين أن يلزموا حكمه، ولا يعدلوا عنه إلى ما تسوّله لهم نفوسهم وتزينه أهواؤهم من ضروب التأويل، فينضم إلى الاختلاف في المنافع اختلاف آخر في ضروب التأويل فتصبح المصلحة مفسدة.
وكما أضاف الحكم إلى الكتاب هنا، أضاف إليه النطق في قوله. «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» والهدى والتبشير في قوله: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ» .
وفي الآية إيماء إلى أن الله أنزل مع كل نبىّ كتابا سواء كان طويلا أو قصيرا دوّن وحفظ، أو لم يدوّن ولم يحفظ ليبلغه للناس، فيبلّغ السلف الخلف، والسابق اللاحق.
ثم ذكر أن ممن أوتوا الكتاب من جعلوه مصدر الاختلاف بغيا وجورا قال:
(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي إن الاختلاف الذي وقع من الرؤساء والأحبار، والعلماء وأهل النظر القائمين على الدين الحافظين له بعد الرسل، وهم الذين أوتوه، وأعطاهم الله الكتاب ليقرّروا ما فيه،