إذ هم يعلمون أن أمر القبلة كغيره من أمور الدين- حقّ لا محيص عنه، إذ جاء به الوحى الذي لا شك في صدقه.
(وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) فهو العليم بالظاهر والباطن والمحاسب على ما في السرائر، والرقيب على الأعمال، فيجازي كل عامل بما عمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد لليهود على عنادهم، وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين.
(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) أي ولئن جئت اليهود والنصارى بكل برهان وحجة، على أن الحق هو ما جئتهم به من وجوب التحوّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلى قبلة المسجد الحرام- ما صدّقوا به ولا اتبعوك عنادا منهم ومكابرة.
وقصارى ذلك- إنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تدفعها بحجة، بل خالفوك عنادا وصلفا، فلا يجدي معهم برهان ولا تقنعهم حجة. وكما أيأسه من اتباعهم قبلته، أيأسهم من اتباعه قبلتهم فقال:
(وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) أي إن ذلك لا يكون منك، فإنك على قبلة إبراهيم الذي يجلّونه جميعا، فهى الأجدر بالاتباع. وإذا كان إتباع ابراهيم لا يزحزحهم عن تعصبهم لما ألفوا والتقليد يحول بينهم وبين النظر في حكمة القبلة، وسرّ اجتماع الناس عليها، وكون الجهات كلها لله- فأى آية ترجعهم عن قبلتهم؟ وأي فائدة ترجى من موافقتك إياهم عليها؟
(وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) أي إن اليهود لا تترك قبلتها وتتجه إلى المشرق، والنصارى لا تغيّر قبلتها وتتجه إلى المغرب، لأن كلا منهما متمسك بما هو فيه، محقّا كان أو مبطلا، ولا ينظر إلى حجة وبرهان، إذ التقليد أعمى بصيرته، فلا يبحث فى فائدة ما هو فيه، ولا يوازن بينه وبين غيره، ليتّبع أصلح الأمور وأكثرها نفعا.