وقد روى المؤرخون أن أول من دخل مصر من بنى إسرائيل يوسف عليه السلام وانضم إليه إخوته بعد، وتكاثر نسلهم حتى بلغوا في مدى أربعمائة سنة نحو ستمائة ألف حين خرجوا من مصر باضطهاد فرعون وقومه لهم، إذ قد رأى تبسط اليهود في البلاد ومزاحمتهم للمصريين، فراح يستذلهم ويكلفهم شاقّ الأعمال في مختلف المهن والصناعات، وهم مع ذلك يزدادون نسلا، ويحافظون على عاداتهم وتقاليدهم لا يشركون المصريين في شىء ولا يندمجون في غمارهم، إلى مالهم من أنانية وإباء وترفع على سواهم، اعتقادا منهم بأنهم شعب الله وأفضل خلقه، فهال المصريين ما رأوا وخافوا إذا هم كثروا أن يغلبوهم على بلادهم، ويستأثروا بخيراتها وينتزعوها من بين أيديهم، وهمّ ذلك الشعب النشيط المجدّ العامل المفكر، فعملوا على انقراضهم بقتل ذكرانهم واستحياء بناتهم، فأمر فرعون القوابل أن يقتلن كل ذكر إسرائيلى حين ولادته.
والعبرة من هذا القصص أنه كما أنعم على اليهود، ثم اجترحوا الآثام فعاقبهم بصنوف البلاء، ثم تاب عليهم وأنجاهم، أنعم على الأمة الإسلامية بضروب من النعم، فقد كانوا أعداء فألّف بين قلوبهم وأصبحوا بنعمته إخوانا، وكانوا مستضعفين فى الأرض، فمكّن لهم وأورثهم أرض الشعوب القوية، وجعل لهم فيها السلطان والقوة، وجعلهم أمة وسطا لا تفريط لديها ولا إفراط، ليكونوا شهداء على من أفرطوا أو قصروا.
ثم لما كفروا بهذه النعم أذاقهم الله ألوانا من العذاب على يد التتار في بغداد، وفي الحروب الصليبية إذ جاس الغربيون خلال الديار الإسلامية، ولا يزالون يتنقصون بلادهم من أطرافها ويصبّون عليهم العذاب وهم لاهون ساهون، وكلما حلّت بهم كارثة أو أصابتهم جائحة أحالوا الأمر فيها على القضاء والقدر دون أن يتعرفوا أسبابها ويبادروا إلى علاجها، ويكونوا يدا واحدة على رفع ما يحلّ بهم من النكبات وبدهمهم من الويلات.