جعله الله وسيلة للاتعاظ والهداية فهؤلاء الرؤساء من اليهود وأعوانهم لا تقبل طباعهم سواها، فلا تتعلق إرادته سبحانه بتطهيرهم، وإلا كان ذلك خلافا لما اقتضته سننه وتبديلا لنظمه فى خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
(لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) فخزى المنافقين فى الدنيا هتك أستارهم باطلاع الرسول على كذبهم وخوفهم من القتل، وخزى اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم فى كتمان نصوص كتابهم فى إيجاب الرجم، وعلوّ الحق على باطلهم، وقد صدق الوعيد على كل يهود الحجاز، كما يصدق على كل من يفسدون كفسادهم ولا يغنى عنهم الانتساب إلى نبىّ لم يتبعوه ولا تنفعهم دعوى الإيمان بكل نبى لم يتبعوه وعذابهم فى الآخرة نجزم بحصوله ولا نعلم مقدار كنهه، وحقيقة أمره.
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أعاد الله وصفهم بكثرة السماع للكذب للتأكيد وتقرير المعنى، وإفادة اهتمام المتكلم بأمره وبيان أن أمرهم كله مبنى على الكذب الذي هو شر الرذائل وأضر المفاسد، وهكذا شأن الأمم الذليلة تلوذ بالكذب وتدرأ به عن نفسها ما تتوقع من ضر بما يلحقها.
وكذلك انتشر بين أفرادها أكل السحت، لأنها كانت تعيش بالمحاباة والرشا فى الأحكام، ففسدت بينها أمور المعاملات وكذلك استبدلت الطمع بالعفة وكان أحبار اليهود ورؤساؤهم عصر التنزيل كذابين أكالين للسحت من رشوة وغيرها من الدناءات، كما هو دأب سائر الأمم عهد فسادها، وأزمان انحطاطها.
(فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي فإن جاءوك متحاكمين إليك فأنت مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم، وهذا التخيير خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة، فلا يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين الأجانب الذين هم فى بلادهم وإن تحاكموا إليهم، بل هم مخيرون يرجحون فى كل حال ما يرونه من المصلحة.