كله، مع العلم بأن الرسل صلوات الله عليهم معصومون من كتمان شىء مما أمرهم الله بتبليغه وإلا بطلت حكمة الرسالة بعدم ثقة الناس بالتبليغ- الحكمة فى ذلك بالنظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إعلامه بأن التبليغ حتم لا يجوز كتمانه على أي حال بتأخير شىء عن وقته على سبيل الاجتهاد، ولولا هذا النص لكان للرسول أن يجتهد بتأخير بعض الوحى إلى أن يقوى استعداد الناس لقبوله، ولا يحملهم سماعه على رده وإيذاء الرسول لأجله.
والحكمة بالنسبة إلى الناس أن يعرفوا هذه الحقيقة بالنص، فلا يعذروا إذا اختلفوا فيها باختلاف الرأى والفهم.
ومن هذا تعلم أن ما نقل من الأقوال والآراء من جواز كتمان بعض الوحى غير القرآن عن كل الناس أو عن جمهورهم لا يتفق مع الدين فى شىء، ولا يعوّل على ما رووه من الأخبار الضعيفة، والأحاديث الموضوعة فى هذا الباب.
والحق الذي لا شبهة فيه أن الرسول بلغ جميع ما أنزل إليه من القرآن، وبيّنه ولم يخصّ أحدا بشىء من علم الدين، وأنه لا امتياز لأحد عن أحد فى علم الدين إلا بفهم القرآن فهما يتوسل إليه بعلم السنة، وآثار علماء الصحابة والتابعين، وعلماء الأمصار فى الصدر الأول، وبمعرفة مفردات اللغة العربية وأساليبها، ومعرفة علوم الكون وشئون البشر وسنن الله فى الخلق.
روى ابن مردويه عن ابن عباس قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أىّ آية من السماء أنزلت أشد عليك؟ فقال: كنت بمنى أيام موسم، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس فى الموسم، فنزل علىّ جبريل فقال:(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) الآية قال- فقمت عند العقبة فقلت:
أيها الناس من ينصرنى على أن أبلغ رسالات ربى ولكم الجنة؟ أيها الناس قولوا لا إله إلا الله وأنا رسول إليكم، تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة- قال صلى الله عليه وسلم فما بقي رجل ولا أمة ولا صبى إلا يرمون علىّ بالتراب والحجارة