ذاك أنهم يعلمون أنه من جنس الوحى الذي نزل على أنبيائهم وأن أوسع البشر علما لا يستطيع أن يأتى بمثله- إلى أن كتبهم تشتمل على بشارات بذلك النبي لم تكن لتخفى على علمائهم فى عصر التنزيل كما قال تعالى:«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» .
وقد اعترف بذلك من أنار الله بصيرتهم من أهل الكتاب فآمنوا، وأنكر بعضهم الحق وكتمه بغيا وحسدا فباء بالخسران المبين.
(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الخطاب إما للنبى صلّى الله عليه وسلم والمراد به غيره على طريق التعريض كقوله: «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» وتقدم الكلام على مثل هذا وإما- له والمراد النهى عن الشك فى أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل بالحق- أو الخطاب لكل من يتأتى منه الامتراء على مثال قوله:«وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ»(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا) قد تطلق الكلمة على الجملة والطائفة من القول فى غرض واحد فإذا كتب أحد أو خطب فى موضوع ما قيل كتب أو قال كلمة، وكانوا يسمون القصيدة كلمة، وقالوا كلمة التوحيد يعنون (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) والمراد بها هنا ما أريد بها فى قوله: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» والمعنى- وتمت كلمة ربك فيما وعدك به من نصرك، وأوعد به المستهزئين بالقرآن من الخذلان والهلاك، كما تمت فى الرسل وأعدائهم من قبلك كما قال:«وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» .
وتمامها صدقا هو حصولها على الوجه الذي أخبر به، وتمامها عدلا باعتبار أنها جزاء للكافرين المعاندين للحق بما يستحقون، وللمؤمنين بما يستحقون أيضا، وقد يزادون على ذلك فضلا من الله ورحمة، والمراد بالخبر هنا لازمه وهو تأكيد ما تضمنته الآيات من تسلية النبي صلّى الله عليه وسلم على كفر هؤلاء المعاندين وإيذائهم له ولأصحابه، وإيئاس للطامعين من المسلمين فى إيمانهم حين إيتائهم الآيات المقترحة.