وقد فشاكل من هذين النوعين فى هذا العصر، فكثير من التجار باخسون مطففون فيما يبيعون وما يشترون، وكثير من المشتغلين بالعلوم والآداب والسياسة بخّاسون لحقوق بنى جلدتهم، مدّعون للتفوق عليهم، منكرون لما خص الله به سواهم من المزايا والخصائص حسدا عليهم وبغيا.
وقد روى أن قوم شعيب كانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه ويقولون هذه زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس أي بالنقصان.
(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أي إنه تعالى أصلح حال البشر بنظام الفطرة ومكّنهم فى الأرض، بما آتاهم من القوى العقلية وقوة الجوارح، وبما أودع فى خلق الأرض من سنن حكيمة، وقوانين مستقيمة، وبما بعث به الرسل من المكملات لنظام الفطرة من آداب وأخلاق ونظم فى المعاملات والاجتماع، وبما أرشد إليه المصلحين من العلماء والحكماء الذين يأمرون بالقسط، ويهدون الناس إلى ما فيه صلاحهم فى دينهم، والعاملين من الزراع والصناع والتجار أهل الأمانة والاستقامة الذين ينفعون الناس فى دنياهم.
فعليكم ألا تفسدوا فيها ببغى ولا عدوان على الأنفس والأعراض والأخلاق بارتكاب الإثم والفواحش، ولا تفسدوا فيها بالفوضى وعدم النظام وبث الخرافات والجهالات التي تقوّض نظم المجتمع، وقد كانوا من المفسدين للدين والدنيا كما يستفاد من هذه الآية وما بعدها.
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ذلكم الذي تقدم من الأمر والنهى خير لكم فى دينكم ودنياكم، فإن ربكم لا يأمر إلا بالنافع ولا ينهى إلا عن الضار.
وإنما يكون ذلك خيرا لكم إن كنتم مؤمنين بوحدانية الله وبرسوله وبما جاءكم من شرع وبما آتاكم به من هدى، فالإيمان يقتضى الامتثال والعمل بما جاء به الرسول من عند الله وإن خالف النفس والهوى.