(وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى) أي وما رميت أيها الرسول أحدا من المشركين فى الوقت الذي رميت فيه القبضة من التراب بإلقائها فى الهواء فأصابت وجوههم فإن ما فعلته لا يكون له من التأثير مثل ما حدث، ولكن الله رمى وجوههم كلهم بذلك التراب الذي ألقيته فى الهواء على قلته أو بعد تكثيره بمحض قدرته.
فقد روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى المشركين يومئذ بقبضة من التراب وقال: شاهت الوجوه ثلاثا، فأعقبت رميته هزيمتهم» .
وروى على بن أبي طلحة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال فى استغاثته يوم بدر «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد فى الأرض أبدا» قال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها وجوههم، ففعل فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولّوا مدبرين.
والفرق بين قتل المسلمين للكفار وبين رمى النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالتراب:
أن الأول فعل من أفعالهم المقدورة لهم بحسب سنن الله فى الأسباب الدنيوية، وأن الثاني لم يكن سببا عاديا لإصابتهم وهزيمتهم، لا مشاهدا كضرب أصحابه لأعناق المشركين، ولا غير مشاهد، إذ هو لا يكون سببا لشكاية أعينهم وشوهة وجوههم لقتله وبعده عن راميه وكونهم غير مستقبلين له كلهم، ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى بيان نقص الأول وعدم استقلاله بالسببية وبيان أنه لولا تأييد الله ونصره لما وصل كسبهم المحض إلى هذا القتل لأنك قد علمت ما كان من خوفهم وكراهتهم للقتال وبمجادلة النبي صلى الله عليه وسلم، فهم لو ظلوا على هذه الحال مع قلتهم وضعفهم لكان مقتضى الأسباب العادية أن يمحقهم المشركون محقا.
فالفرق بين فعله تعالى فى القتل وفعله فى الرمي- أن الأول عبارة عن تسخيره تعالى لهم أسباب القتل كما هو الحال فى جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية من كونها لا تستقل فى حصول غاياتها إلا بفعل الله وتسخيره لهم، وللأسباب التي لا يصل إليها كسبهم عادة كما بين ذلك سبحانه بقوله «أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ