ذلك التولي عارضا طارئا، بل تولوا بكل ما أوتوا من قوة بحافز نفسىّ ملك عليهم أمرهم ومنعهم عن التصدق، بحيث إذا ذكّروا بما يجب عليهم لا يذكرون، وإذا دعوا لا يستجيبون.
(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) قال الليث: يقال أعقبت فلانا ندامة إذا صيرت عاقبة أمره كذلك كما قال الهذلي:
أودى بنىّ وأعقبونى حسرة ... بعد الرّقاد وعبرة لا تقلع
أي أعقبهم ذلك البخل والتولي بعد العهد الموثّق بأوكد الأيمان نفاقا فى قلوبهم متمكنا منها وملازما لها إلى يوم الحساب فى الآخرة لأنه لا رجاء معه فى التوبة.
ثم ذكر سببين هما من أخص أوصاف المنافقين- إخلاف الوعد والكذب فقال:
(بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي إن سنة الله فى البشر قد جرت بأن العمل بما يقتضيه النفاق يمكّن النفاق فى القلب ويقويه، كما أن العمل بمقتضى الإيمان يزيد الإيمان قوة ورسوخا فى النفس، وهكذا جميع الأخلاق والعقائد تقوى وترسخ بالعمل الذي يصدر منها.
فهؤلاء لما كان قد رسخ فى نفوسهم خلف الوعد واستمرار الكذب- مكّن ذلك النفاق فى قلوبهم بمقتضى سننه وتقديره.
أخرج ابن جزير وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس فى قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ) الآية: أن رجلا من الأنصار يقال له ثعلبة أتى مجلسا فأشهدهم قال: لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذى حق حقه وتصدقت وجعلت منه للقرابة، فابتلاه الله فآتاه من فضله، فأخلف ما وعده، فأغضب الله بما أخلفه ما وعده، فقص الله شأنه فى القرآن اه.
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يعلنون غير ما يسرّون، ويتناجون فيما بينهم بالإثم والعدوان ولمز الرسول- أن الله يعلم السر الكامن فى أعماق نفوسهم الذي يخصون به من يثقون به