والنصارى كانوا يستقبلون المشرق، فأىّ شبهة تتجه من المشاغبين في أمر تحويل القبلة وكيف يكون ذلك مسوّغا للطعن في النبي وشرعه، فالقبلة إذا من المسائل التي اختلفت باختلاف الأمم، فليست الجهة أسّا من أسس الدين كتوحيد الله والإيمان بالبعث والجزاء، فالواجب فيها التسليم لأمر الوحى كما هو الشأن في أمثالها كعدد الركعات، ومقدار النصيب الواجب في الزكاة.
َاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)
أي فبادروا إلى فعل كل نوع من أنواع الخير، وليحرص كل منكم أن يكون سباقا إليه، وأن يتبع أمر المرشد لا أمر المكابر المستكبر الذي يتبع الهوى، ويلقى الحق وراءه ظهريا، فإنه إنما يستبق إلى الشرّ والضلال «وماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال» .
َيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً)
أي ففى أي مكان تقيمون فيه، فالله يأتي بكم ويجمعكم للحساب، فعليكم أن تستبقوا إلى فعل الخيرات، فالبلاد والجهات لا شأن لها فى أمر الدين، وإنما الشأن لعمل البر، وفي هذا وعد لأهل الطاعة، ووعيد لأهل المعصية.
ثم أقام الدليل على ما قبله بقوله:
ِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
فهو لا يعجزه أن يحشر الناس يوم الجزاء مهما بعدت بينهم المسافات. وتناءت بهم الديار والجهات.
والأمر باستباق الخيرات هنا مجمل يفصله ذكر أنواع البر التي ذكرت في آية «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ، وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ، وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ» وستأتى، وكأنه يقول للفاتنين والمفتونين في مسألة القبلة: إن جوهر الدين ولبه في المسارعة إلى الخيرات، فهل رأيتم محمدا صلى الله عليه وسلم وأتباعه قصّروا في ذلك أو كانوا السباقين