وقد كان موسى يرى أن مفارقة هرون لهم، وخروجه من بينهم بعد تلك النصائح القولية يكون أزجر لهم من الاقتصار على النصائح وحدها، لما فى ذلك من الدلالة على شديد الغضب والإنكار عليهم، فإن مفارقة الرئيس المحبوب لديهم من أجل أمر مبغوض لديهم مما تشق على النفوس، وتقتضى ترك ذلك الأمر الذي يكرهه.
(أفعصيت أمرى) فيما قدمت إليك من قولى: «اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين» .
فلما أقام بينهم ولم يبالغ فى الإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة امره.
فترفّق هرون فى خطاب موسى استعطافا له وترقيقا لقلبه إذ أضافه إلى الأمّ مع كونه أخاه لأبيه وأمه.
ال يا بن أم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى)
أي فامتلأ موسى غضبا مما رأى، وألقى ما فى يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه فقال: يا بن أمي لا تأخذ بشعر لحيتى ولا بشعر رأسى.
وقد روى أن موسى أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله،
وكان عليه السلام حديدا غضو با لله تعالى، وقد شاهد ما شاهد، وغلب على ظنه تقصير هرون عليه السلام ففعل ما فعل.
قال صاحب الكشاف: كان موسى عليه السلام رجلا حديدا مجبولا على الحدة والخشونة والتصلب فى كل شىء، شديد الغضب لله ولدينه، فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلا من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام، أن ألقى ألواح التوراة، لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة، غضبا لله واستنكافا وحميّة، وعنّف بأخيه وخليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدو المكاشف، قابضا على شعر رأسه (وكان أفرع) وعلى شعر وجهه يجره إليه اه.
ثم بين علة هذا النهى بأنى لست عاصيا أمرك ولا مقصرا فى المصلحة، بل:
نى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرائيل ولم ترقب قولى)
أي إنى خشيت لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرقوا، فتريثت حتى تكون أنت المتدارك ذلك بنفسك،