لم يفعلوا علم أنه قد بلغ الغاية التي لا تجارى وانتهى إلى حد الإعجاز- إلى أنه اشتمل على الحكم والأحكام التي فيها سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم، كما اشتمل على أخبار من أمور الغيب التي لا تصل إليها مدارك البشر ولا عقولهم.
وبعد أن حكى عنهم قولهم فى الافتراء بإعانة قوم آخرين عليه- حكى عنهم طريق تلك الإعانة.
(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي وقال المشركون الذين قالوا إن هذا إلا إفك مفترى: أي ما هذا إلا أحاديث الأولين الذين كانوا يسطرونها فى كتبهم من نحو أحاديث رستم وإسفنديار- اكتتبها من اليهود فهى تستنسخ منهم وتقرأ عليه، ليحفظها غدوة وعشيا: أي قبل انتشار الناس وحين يأتون إلى مساكنهم، وقد عنوا بذلك أنها تملى عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال، وهذه جرأة عظيمة منهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون، وقد يكون مرادهم أنها تملى عليه دائما.
ثم أمره الله تعالى بإجابتهم عما قالوا بقوله:
(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل لهم ردّا وتحقيقا للحق:
ليس ذلك كما تزعمون، بل هو أمر سماوى أنزله الذي لا يعزب عن علمه شىء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الأفكار، ومن ثم أعجزكم بفصاحته وبلاغته، كما أخبركم فيه بمغيّبات مستقبلة، وأمور مكنونة، لا يوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبير.
وقد وصف سبحانه نفسه بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية، فالجلية المعلومة من باب أولى، إيذانا بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر.
(إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي إنكم استوجبتم العذاب بمكايدتكم لرسوله، لكنه لم يعجله لكم رحمة بكم، رجاء توبتكم وغفران ذنوبكم، ولولا ذلك لصبّ عليكم العذاب صبّا.