ولا يخفى ما فى ذلك من حرج عليهم بكثرة التكاليف مرة واحدة، ولكن بإنزاله منجّما جاء التشريع رويدا رويدا فكان احتمالهم له أيسر ومرانهم عليه أسهل.
(٤) إنه عليه الصلاة والسلام إذا شاهد جبريل الفينة بعد الفينة قوى قلبه على أداء ما حمل به، وعلى الصبر على أعباء النبوة، وعلى احتمال أذى قومه، وقدر على الجهاد الذي استمر عليه طوال حياته الشريفة.
(٥) إنه أنزل هكذا بحسب الأسئلة والوقائع، فكان فى ذلك زيادة بصر لهم فى دينهم.
(٦) إنه لما نزل هكذا، وتحداهم بنجومه وبما ينزل منه، وعجزوا عن معارضته- كان عجزهم عن معارضته جملة أجدر وأحق فى نظر الرأى الحصيف.
(٧) إن بعض أحكام الشريعة جاء فى بدء التنزيل وفق حال القوم الذين أنزلت عليهم، وبحسب العادات التي كانوا يألفونها، فلما أضاء الله بصائرهم بهدى رسوله تغيرت بعض أحوالهم واستعدت أنفسهم لتشريع يزيدهم طهرا على طهر، ويذهب عنهم رجس الجاهلية الذي كانوا فيه، فجاء ذلك التشريع الجديد الكامل المناسب لتلك الحال الجديدة، ولو نزل القرآن جملة لم يتسنّ شىء من هذا.
(وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا) أي وأنزلناه عليك هكذا على مهل، وقرأناه بلسان جبريل شيئا فشيئا في ثلاث وعشرين سنة.
وبعد أن أبان فساد قولهم بالدليل الواضح أعقبه بما يقوّى قلبه إزاء المشركين، وأنه قد كتب له الفلج عليهم، فهم محجوجون فى كل آن، وقولهم مدفوع على كل وجه فقال:
(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي ولا يأتيك هؤلاء المشركون بصفة غريبة من الصفات التي يقترحونها، ويريدون بها القدح فى نبوتك إلا دحضناها بالحق الذي يدفع قولهم ويقطع عروق أسئلتهم السخيفة، ويكون أحسن بيانا مما يقولون.