ثم بين أن مقتضى عدله وحكمته ألا يساوى بين الذين أحسنوا بالحسنى، والذين اجترحوا السيئات، ودسّوا أنفسهم بكبير الآثام والذنوب فقال:
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) أي بل أنجعل من آمنوا بربهم واعتقدوا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في ملكه، وأصلحوا أعمالهم فأدّوا ما يجب للخلق والخالق وائتمروا بما أمر به ربهم على لسان أنبيائه وانتهوا عما نهوا عنه، فلم يدسّوا أنفسهم بفعل شىء من كبائر الآثام خوفا من يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، ولا تقبل الشفاعة ولا الفداء من أحد «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» . «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» كمن كفروا به وعاثوا في الأرض فسادا، وهاموا فيها على وجوههم، لا دين يمنعهم، ولا زاجر يردعهم، إذ هم ينكرون الجزاء والحساب والإعادة بعد الموتة الأولى ويقولون: ما هى إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر، فأنى لمثل هؤلاء أن يرعووا عن غىّ، أو يكفّوا عن معصية؟ بل هم جهد استطاعتهم يحصلون على اللذات، ويجترحون السيئات، بما وسوس إليهم به الشيطان، أن لا حلال ولا حرام، ولا جنة ولا نار، فما هذه إلا أساطير الأولين، وخزعبلات الموسوسين المتزمّتين.
وإذا كان هذا حقا واقتضته الحكمة وأوجبته العدالة، فلا بد من دار أخرى يجازى فيها المطيع، ويثاب على ما عمل، ويعاقب فيها العاصي على ما دنّس به نفسه من شرك بربه، واجتراح للاثم والعصيان ومخالفة أمر الواحد الديان.
والعقول السليمة، والفطر الصحيحة ترشد إلى هذا وتؤيده، وتدل عليه وتثبته، فإنا نرى الظالم الباغي قد يزداد في دنياه مالا وولدا، ويتمتع بصنوف اللذات، من الدور