تبين ما في القصة الأولى المجملة، فإن الأولى تصرح بأن موتهم كان بذهاب استقلالهم، وأنه نتيجة لفرارهم وضعف عزيمتهم، لكن لم يذكر سبب إحيائهم وإن كان قد فهم مما جاء بعدها من الأمر بالقتال وبذل المال أن هذا هو سنة الله في إحياء الأمم.
أما هذه القصة فقد فصلت احتياج هؤلاء القوم إلى القتال لمدافعة العادين عليهم، واسترجاع ديارهم من أيديهم، فبذلوا الوسع في الاستعداد للدفاع، لكن الضعف قد بلغ منهم كل مبلغ، فتولوا وأعرضوا عن القتال إلا قليلا منهم، ألهمهم الله رشدهم فاعتبروا وانتصروا.
وقد جاء قصص القرآن للعبرة والموعظة كما قال:«لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ» ومن ثم لم يذكر إلا ما تمس الحاجة إليه من الفائدة، أما ذكر التفاصيل والجزئيات فربما شغل عن ذلك- إلى ما فيها من خلاف ربما يذهب الثقة بها، ومن قبل هذا اقتدى كثير من المؤرخين في العصر الحديث بطريق القرآن فلا يذكرون إلا الأمور الكلية، ولا يحفلون بالجزئيات، مع توافر أسباب ضبطها ونقل أخبارها بتصوير الوقائع والأماكن، وسهولة الانتقال من مكان إلى مكان، وإنك لترى في ذكر أخبار الحروب فى العصر الحاضر التناقض الواضح في رسائل الفريقين المختصمين فيها، مما يرفع الثقة بها.
وإذا جاء في كتب بنى إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق، أو في كتب التاريخ القديمة ما يخالف ما في القرآن في باب القصص، فعلينا ألا نحفل به ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه، فحال التاريخ قبل الإسلام كانت حالكة الظلام، فلا يوثق إذ ذاك برواية، كما أن الكتب الدينية ليست لها أسانيد متواترة، وقد صرح القرآن بأن أتباع موسى نسوا حظّا مما ذكروا به، وحفظوا نصيبا وهذا الذي حفظوه حرفوه، وأن أتباع عيسى فعلوا مثل ما فعل أصحاب موسى، فلا ثقة بما جاء في قصص العهدين العتيق والجديد مما يسمى مجموعه الكتاب المقدس.