فى إدراكه وأفكاره كسبيا، فهو ينشأ ضعيف الإدراك ثم يقوى بالتربية والتعليم وتجارب السنين، كما جعل هداية الدين له أمرا اختياريا يأخذ منها بقدر استعداده وفكره كما هو شأنه في الاستفادة من منافع الكون، وهذا هو منشأ الاختلاف.
ولو شاء الله أن يجعل الدين من إلهاماته العامة، وشعوره الفطري كشعور الحيوان وإلهامه لكان الناس في هدايته سواء يسعدون به أجمعين، فتمنعهم بيناته أن يختلفوا فيقتتلوا، لكنه خلق الإنسان على غير ما عليه الحيوان، وكان هذا سبب اختلاف أهل الأديان، فمنهم من آمن إيمانا صحيحا فأخذ الدين على وجهه وفهمه حق فهمه، ومنهم من حكّم هواه في تأويله فكان كافرا به في الحقيقة، وهذا هو منشأ التخاصم، وسبب التنازع والقتال، وقد اختلف اليهود في دينهم فاقتتلوا، والنصارى كانوا أشد منهم في ذلك، فتفرقوا طرائق قددا، وكان أهل المذهب الواحد يتشعبون شعبا يقاتل بعضها بعضا.
وقد نهى الله المسلمين عن مثل هذا الخلاف، وأمرهم بالاتحاد والوئام، فامتثلوا أمره فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وزمنا قليلا بعده فكانوا خير أمة أخرجت للناس، ثم تفرّقوا في الدين مذاهب واقتتلوا فيه، وما زالت الحال تتفاقم حتى صاروا أبعد الأمم عن الاتفاق والائتلاف.
وقد جرت سنة الله بأن أهل الدين الواحد يقاتل بعضهم بعضا باسم الدين، ولحماية الدين من طغيان الملحدين، ولله في خلقه شئون.
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) أي ولو شاء الله أن يعذر بعض المختلفين بعضا، ويقتصر كل فريق على الانتصار لرأيه بالحجة- لما اقتتلوا على ما يختلفون فيه، لكنه أودع فى غرائزهم النضال عن مصلحتهم بكل ما قدروا عليه من قول أو فعل، فمنهم من يقارع الحجة بالحجة، ومنهم القوىّ الذي يقاوم بالسيف، فكان الاختلاف في الرأى والمصالح مع عدم العذر مؤديا إلى الاقتتال لا محالة.
(وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) أي إن اختصاص الناس بهذه المزايا أثر من آثار