الأسباب والعلل، إذ لم يعهد أن يجىء طير فى جهة فيقصد قوما دون قوم، وهم معهم فى جهة واحدة، فذلك أمارة أنه من صنع حكيم مدبر بعثه لإنقاذ مقصد معين.
وإنما عبر عن العلم بالرؤية، للإيماء إلى أن الخبر بهذا القصص متواتر مستفيض، فالعلم به مساو فى قوة الثبوت مع الوضوح- للعلم الناشئ عن الرؤية والمشاهدة.
وخلاصة ذلك- إنك قد علمت ذلك علما واضحا لا لبس فيه ولا خفاء.
ثم بين الحال التي وقع عليها فعله فقال:
(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ؟) أي إنك لترى ما كان عليه فعل الله بأولئك القوم، فقد ضيع تدبيرهم، وخيّب سعيهم.
ثم فصل تدبيره فى إبطال كيد أولئك القوم فقال:
(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) أي إنه تعالى أرسل عليهم فرقا من الطير تحمل حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش، فابتلوا بمرض الجدري أو الحصبة حتى هلكوا.
وقد يكون هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، أو تكون هذه الحجارة من الطين اليابس المسموم الذي تحمله الرياح، فيعلق بأرجل هذا الطير، فإذا اتصل بجسم دخل فى مسامّه، فأثار فيه قروحا تنتهى بإفساد الجسم وتساقط لحمه.
ولا شك أن الذباب يحمل كثيرا من جراثيم الأمراض، فوقوع ذبابة واحدة ملوّثة بالمكروب على الإنسان كافية فى إصابته بالمرض الذي يحمله، ثم هو ينقل هذا المرض إلى الجمّ الغفير من الناس، فإذا أراد الله أن يهلك جيشا كثير العدد ببعوضة واحدة لم يكن ذلك بعيدا عن مجرى الإلف والعادة، وهذا أقوى فى الدلالة على قدرة الله وعظيم سلطانه، من أن يكون هلاكهم بكبار الطيور، وغرائب الأمور، وأدل على ضعف الإنسان وذله أمام القهر الإلهى، وكيف لا وهو مخلوق تبيده ذبابة، وتقضّ مضجعه بعوضة، ويؤذيه هبوب الريح.