هذا البيان الإلهى فى تلك الموقعة التي رأوا نتائجها بأعينهم- برهان ساطع أمام الملأ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان زعيما سياسيا، ومؤسسا لبناء مملكة يريد توطيد دعائمها بفتوحه لأطراف البلاد، لما قال مثل هذا القول فى مواطن الدفاع، وحب النصر على الأعداء. ولا سبيل للنصر على العدو إلا بالاستعداد والحيطة، وحسن التدبير والكياسة الحربية، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» ولا قوة إلا بالعلم والمال، ولا مال إلا إذا انتشر العدل فى الأمة وبث بين أفرادها روح التعاون والشورى فى مهامّ الأمور كما قال:«وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» .
(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال ابن جرير: أي لله جميع ما بين أقطار السموات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها، دونك ودونهم، يحكم فيهم بما شاء، ويقضى فيهم بما أحب، فيتوب على من شاء من خلقه العاصين أمره ونهيه، ثم يغفر له، ويعاقب من شاء منهم على جرمه، فينتقم منه، فهو الغفور يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه، بفضله عليهم بالعفو والصفح، وهو الرحيم بهم فى تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم اه.
وفى هذا تأديب من الله لرسوله، وإعلام له بأن الدعاء على المشركين ولعنهم مما لم يكن ينبغى منك، إذ الأمر كله لله، وليس لأحد من أهل السموات والأرض شركة معه ولا رأى ولا تدبير فيهما، وإن كان ملكا مقرّبا أو نبيا مرسلا، إلا من سخره الله للقيام بشىء من ذلك، فيكون خاضعا لذلك التسخير، لا يستطيع الخروج فيه عن السنن العامة التي قام بها نظام الكون ونظام الاجتماع.