وكف الأيدى من الاعتداء، وإقامة الصلاة والخشوع لله، وإيتاء الزكاة التي تمكّن الإيمان فى القلوب، وتشد أواصر التراحم بين الخلق، وقد كانوا من قبل ذوى إحن وأحقاد وتخاصم وتلاحم وحروب مستمرة، فلما جاء الإسلام أحبوا أن يكتب عليهم القتال ليسيروا على ما تعودوه، ولكن حين كتب عليهم كرهه الضعفاء منهم وخافوا أن يقاتلهم الكفار وينزلوا بهم النكال والوبال، كما خافوا أن ينزل الله بهم بأسه وعقابه بل رجح خوفهم من الناس على خوفهم من الله.
ثم بين شدة هلعهم من القتال فقال حكاية عنهم:
(وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي وقالوا ربنا لماذا كتبت علينا القتال فى هذا الوقت؟ هلا أخرتنا حينا من الدهر نموت حتف أنوفنا موتا طبيعيا، وربما لا يكونون قد قصدوا وقتا معينا بل قصدوا من ذلك الهرب والتفصى عن القتال كما تقول لمن يرهقك عسرا فى أمره: أمهلنى قليلا، أنظرنى إلى أجل.
وقد أمر الله رسوله أن يردّ عليهم شبهتهم فقال:
(قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) أي إن طلبكم للإنظار إنما هو خشية الموت والرغبة فى متاع الدنيا ولذاتها، مع أن كل ما يتمتع به فى الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى متاع الآخرة، لأنه محدود فان، ومتاع الآخرة كثير باق ولا يناله إلا من اتقى الله وابتعد عن الأسباب التي تدنس النفس بالشرك والأخلاق الذميمة، فحاسبوا أنفسكم واعلموا أنكم ستجزون بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
(وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أي ولا تنقصون من الجزاء على أعمالكم مقدار فتيل- والفتيل ما يكون فى شق نواة التمر مثل الخيط، وبه يضرب المثل فى القلة والحقارة-.
ثم رغهم فى القتال وبين لهم أن الموت مصير كل شىء فقال:
(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أي إن الموت أمر محتم لا مهرب منه، فهو لا بد أن يدرككم فى أي مكان ولو تحصنتم فى شواهق القصور التي يسكنها ذوو الثراء والنعمة أو فى القلاع والحصون التي تقطنها حامية الجند، وإذا كان الموت لا مفر منه، وكان المرء قد يقتحم غمار الوغى، ولا يصاب بالأذى، وقد يموت