والإستحسان ثم قدم الإستحسان على القياس بأبعد ما شاء. وحدّ بعضهم استحسانه: إنه الميل إلى القول بغير حجة، وهذا هو الهوى المذموم والشهوة والحدث في الدين والبدعة.
وأما أحمد وداود فإنهما سلكا اتباع الآثار ونكبا عن طريق الإعتبار، ولكن داود غلا في ذلك فترك القياس جملة، فأحدث هو وأصحابه من القول بالظاهر ما خالف فيه أئمة الأمة فخانه التمسك برفع أدلة الشريعة، وأعرض ما حضت عليه من الإجتهاد والإعتبار. وسمى ما لم يجد فيه نصاً ظاهراً، عفواً. وأطلق على بعضه الإباحة، واضطربت أقوال أصحابه في ذلك لضيق المسلك فيه فتهافت مذهبه، واختل نظره، وجاء من اتباع الظاهر بمقالات يمج الكثير منها السمع وينكره.
وقال أحمد: الخبر الضعيف عندي، خير من القياس. وبديهة العقل تنكر هذا. فلا خير في بناء على غير أساس».
ثم شرع في سرد نقط الضعف في الفروع عند المذاهب الثلاثة، جامعاً من كل مذهب أكثر مما جمع أحدهم على المالكية. وهو يقيم الحجة بهذا على وجوب تقليد مذهب مالك وتقديمه على غيره، ولا يعتبر الشافعي من أئمة الفقه، بل مالكياً مخالفاً لبعض أصول مذهب مالك لا عن دراية بل عناداً. ثم يشرع عياض في ترجمة الإمام مالك، في نسبه وصباه وتعلمه وجلوسه للتدريس والفتوى ومأكله وملبسه ومجلسه، والرواة عنه. ثم أتباعه مترجماً لهم واحداً واحداً، وانتشار المذهب شرقاً وغرباً حتى في بعض أصقاع نائية انقرض اليوم منها، ثم تأليف كل واحد وتلاميذه مع ما يمس من الحوادث بحياته. وبالجملة فكتاب المدارك، لا يعتبر معجماً لأتباع مالك فقط، بل كتاب من أهم كتب تاريخ الحضارة الإسلامية.