كان ملكا جليلا، له حظ من العلم والخير، بعث إلى الحرمين غير مرة بصدقات طائلة، ففرقت بهما، وعم بذلك النفع، وبعث مع ذلك بمال لعمارة مدرستين: مدرسة بمكة، ومدرسة بالمدينة، وشراء عقار يوقف عليهما، ففعل له ذلك من ندبه.
وكان ابتداء عمارة المدرسة بمكة، فى شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، ولم تنقض هذه السنة، حتى فرغ من عمارة سفلها، وغالب علوها، وكملت عمارتها فى النصف الأول من سنة أربع عشرة وثمانمائة.
وفى جمادى الآخرة منها، ابتدئ فيها التدريس فى المذاهب الأربعة، ودرست فيها لطائفة المالكية. وكان وقفها فى المحرم من هذه السنة. وفيه وقف عليها أصيلتان. إحداهما: تعرف بسلمة، والأخرى بالحلى، بالضيعة المعروف بالركانى، وأربع وجاب من قرار عين هذه الضيعة، ثنتان منها يعرفان بحسين منصور ليله ونهاره، وثنتان يعرفان بحسين يحيى ليله ونهاره. وجعل ذلك خمسة أقسام: قسم للمدرسين الأربعة بالسوية بينهم، وثلاثة أقسام للطلبة، وهم ستون نفرا، عشرون من الشافعية، وعشرون من الحنفية، وعشرة من المالكية، وعشرة من الحنابلة، بالسوية بينهم، والقسم الخامس، يقسم أثلاثا قسمان لسكان المدرسة، وهم عشرة رجال، وقسم لمصالحها.
وكان شراء هذا الوقف وموضع المدرسة، بإثنى عشر ألف مثقال ذهبا، وكان المتولى لشراء هذا الوقف والمدرسة وعمارتها، خادم السلطان المذكور: ياقوت الحبشى، وهو الذى تولى تفرقة صدقة السلطان بمكة، فى سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، ووقف المذكور على مصالح المدرسة دارا مقابلة لها، اشتراها بخمسمائة مثقال، وعمرها فى سنة أربع عشرة. وفى موسمها أشيعت بمكة وفاة السلطان غياث الدين المذكور.
وفى سنة خمس عشرة وثمانمائة، جاء الخبر من عدن فى البحر بصحة وفاة السلطان المذكور.
وفى ربيع الأول منها، توفى خادمة ياقوت المذكور بجزيرة هرموز، وهو متوجها إلى مولاه، ولم يقدر له لقاه. والمدرسة التى بنيت بالمدينة، هى بمكان يقال له الحصن العتيق، عند باب المسجد النبوى المعروف بباب السلام، وترتيبها فى المدرسين والطلبة والوقف، يخالف ما وقع بمكة فى هذا المعنى، والله تعالى يعظم الثواب فى ذلك للواقف ولمن أعان فيه بخير.