جمالها على مصر وساكنيها، فدخل ذلك عقل الحاكم، فنفذ إلى أبى الفتوح يأمره بذلك. فسار أبو الفتوح حتى قدم المدينة، وحضر إليه جماعة من أهلها؛ لأنه كان بلغهم ما قدم بسببه، وكان حضر معهم قارئ يعرف بالركيانى. فقرأ بين يدى أبى الفتوح:(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ. أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قاتِلُوهُمْ)، قال: فماج الناس وكادوا أن يقتلوا أبا الفتوح ومن معه من الأجناد، وما منعهم إلا أن البلاد كانت للحاكم.
فلما رأى أبو الفتوح ما الناس عليه، قال لهم: الله أحق أن يخشى، والله لا أتعرض لشيء من ذلك، ودع الحاكم يفعل فىّ ما أراد، ثم استولى عليه ضيق الصدر وتقسيم الفكر كيف أجاب، فما غابت الشمس فى بقية ذلك اليوم، حتى أرسل الله تعالى من الريح ما كادت الأرض تزلزل منه، وتدحرجت الإبل بأقتابها والخيل بسروجها، كما تدحرج الكرة على وجه الأرض، وهلك خلق كثيرون من الناس، وانفرج همّ أبى الفتوح لما أرسل الله تعالى تلك الرياح التى شاع ذكرها فى الآفاق، لتكون له حجة عند الحاكم من الامتناع من نبش القبور الكريمة. انتهى.
وذكر أبو عبيد البكرى: أن الحاكم أنفذ إلى أبى الفتوح هذا أيضا، سجلا تنقص فيه بعض الصحابة رضى الله عنهم. وجرح به بعض أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، فأنفذه الأمير ـ يعنى أبا الفتوح ـ إلى القاضى الموسوى، أظنه إبراهيم بن إسماعيل السابق، وهو قاضى مكة وما والاها، وأمره بقراءته على الناس، فغضب لذلك المجاورون من القاطنين وغيرهم من قبائل العرب. فلما بلغ ذلك القاضى، أرجأ الخروج وتباطأ، وذلك فى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.
واتفق بمكة فى ولاية أبى الفتوح عليها قضية أخرى عجيبة، ذكرها جماعة من المؤرخين منهم الذهبى، قال فى أخبار سنة ثلاث عشرة وأربعمائة: فيها عمد بعض المصريين إلى الحجر الأسود، فضربه بدبوس كسر منه قطعا، فقتله الحاج، وثار أهل مكة بالمصريين، فنهبوهم وقتلوا منهم جماعة، ثم ركب أبو الفتوح الحسن بن جعفر، فأطفأ الفتنة وردهم عن المصريين.
وهذه الحادثة مذكورة بأكثر من هذا فى كتابنا شفاء الغرام ومختصراته، فأغنى عن ذكر هاهنا.