أحدهما لأمير المؤمنين الرشيد بالمعلاة ثم تسكب فى البركة التى عند المسجد الحرام ثم كان الناس بعد يقطع هذه العيون فى شدة من الماء، وكان أهل مكة والحاج يلقون من ذلك المشقة حتى إن الراوية لتبلغ فى الموسم عشرة دراهم وأكثر وأقل الماء، فبلغ ذلك أم جعفر بنت أبى الفضل جعفر بن أمير المؤمنين المنصور، فأمرت فى سنة أربع وتسعين وماية بعمل بركتها التى بمكة فأجرت لها عينا من الحرم فجرت بماء قليل لم يكن فيه رى لأهل مكة، وقد غرمت فى ذلك غرما عظيما فبلغها فأمرت جماعة من المهندسين أن يجروا لها عيونا من الحل.
وكان الناس يقولون: إن ماء الحل لا يدخل الحرم، لأنه يمر على عقاب وجبال، فأرسلت بأموال عظام ثم أمرت من يزن عينها الأولى فوجدوا فيها فسادا، فانشأت عينا أخرى إلى جانبها وأبطلت تلك العيون، فعملت عينها هذه بأحكم ما يكون من العمل، وعظمت فى ذلك رغبتها وحسنت نيتها فلم تزل تعمل فيها حتى بلغت ثنية خل، فإذا الماء لا يظهر فى ذلك الجبل، فأمرت بالجبل فضرب فيه، وانفقت فى ذلك من الأموال ما لم يكن تطيب به نفس كثير من الناس حتى أجراها الله عزوجل لها.
وأجرت فيها عيونا من الحل منها عين من المشاش واتخذت لها بركا تكون السيول إذا جاءت تجتمع فيها، ثم أجرت لها عيونا من حنين واشترت حايط حنين فصرفت عينه إلى البركة وجعلت حايطه سدا يجتمع فيه السيل، فصارت لها مكرمة لم تكن لأحد قبلها وطابت نفسها بالنفقة فيها بما لم تكن تطيب نفس أحد غيرها به، فأهل مكة والحاج إنما يعيشون بها بعد الله عزوجل.
ثم أمر أمير المؤمنين المأمون صالح بن العباس فى سنة عشر ومايتين أن يتخذ له بركا فى السوق خمسا لئلا يتعنى أهل أسفل مكة والثنية وأجيادين والوسط إلى بركة أم جعفر فأجرى عينا من بركة أم جعفر من فضل مائها فى عين تسكب فى بركة البطحاء عند شعب ابن يوسف فى وجه دار ابن يوسف، ثم يمضى إلى بركة عند الصفا ثم يمضى إلى بركة عند الحناطين ثم يمضى إلى بركة بفوهة سكة الثنية دون دار أويس ثم يمضى إلى بركة عند سوق الحطب بأسفل مكة ثم يمضى فى سرب ذلك إلى ماجل أبى صلاية ثم إلى الماجلين اللذين فى حايط ابن طارق بأسفل مكة، وكان صالح بن العباس لما فرغ منها ركب بوجوه الناس إليها، فوقف عليها حين جرى فيها الماء ونحر عند كل بركة جزورا، وقسم لحمها على الناس.