ولما حصر الحجاج ابن الزبير بمكة، نصب المنجنيق على أبى قبيس، ورمى به الكعبة، وكان عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قد حج تلك السنة، فأرسل إلى الحجاج: أن اتق الله، واكفف هذه الحجارة عن الناس، فإنك فى شهر حرام وبلد حرام، وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض، ليؤدوا الفريضة ويزدادوا خيرا، وإن المنجنيق قد منعهم من الطواف، فاكفف عن الرمى، حتى يقضوا ما وجب عليهم بمكة. فبطل الرمى حتى عاد الناس من عرفات، وطافوا وسعوا، فلما فرغوا من طواف الزيارة، نادى منادى الحجاج: انصرفوا إلى بلادكم، فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير، وأول ما رمى بالمنجنيق إلى الكعبة، رعدت السماء وبرقت، وعلا صوت الرعد على الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام، فأخذ الحجاج حجر المنجنيق بيده، فوضعها فيه، ورمى بها معهم، فلما أصبحوا جاءت الصواعق، فقتلت من أصحابه اثنى عشر رجلا، فانكسر أهل الشام فقال الحجاج: يا أهل الشام، لا تنكروا هذا فإنى ابن تهامة، وهذه صواعقها، وهذا الفتح قد حضر فأبشروا.
فلما كان الغد، جاءت الصواعق، فأصابت من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون وأنتم على الطاعة، وهم على خلافها.
ولم يزل القتال بينهم دائما، فغلت الأسعار عند ابن الزبير، وأصاب الناس مجاعة شديدة، حتى ذبح فرسه وقسمها لحما بين أصحابه، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمد بعشرين، وإن بيوت ابن الزبير لمملوءة قمحا وشعيرا وذرة وتمرا، وكان أهل الشام ينتظرون فناء ما عنده، وكان يحفظ ذلك ولا ينفق منه إلا ما يمسك الرمق، ويقول: أنفس أصحابى قوية ما لم يفن، فلما كان قبيل مقتله، تفرق عنه الناس، وخرجوا إلى الحجاج بالأمان، خرج من عنده نحو عشرة آلاف، وكان ممن فارقه: ابناه حمزة وخبيب، أخذا لأنفسهما أمانا.
ولما تفرق أصحابه عنه، خطب الناس الحجاج وقال: قد ترون قلة من مع ابن الزبير، وما هم فيه من الجهد والضيق، ففرحوا واستبشروا وتقدموا، فملؤوا ما بين الحجون إلى الأبواب، فحمل ابن الزبير على أهل الشام حملة منكرة، فقتل منهم، ثم انكشف هو وأصحابه، فقال له بعض أصحابه: لو لحقت بموضع كذا، فقال له: بئس الشيخ أنا إذا فى الإسلام، لئن أوقعت قوما فقتلوا، ثم فررت عن مثل مصارعهم. ودنا أهل الشام حتى امتلأت منهم الأبواب، وكانوا يصيحون به: يابن ذات النطاقين، فيقول: