بأموال جزيلة، وأنفق على عساكره، وجعل فيها رتبة مائة وخمسين فارسا، وجعل عليهم ابن الوليدى وابن التعزى، وفى هذه الوقعة يقول الأديب جمال الدين محمد بن حمير يمدح الملك المنصور بقصيدة، منها [من البسيط]:
من ذا يلوم أميرا فرّ من ملك ... لا ذاك ذاك ولا كالخنصر العضد
ولم يزل عسكر المنصور بمكة، حتى خرجوا منها فى سنة سبع وثلاثين، لما وصل الأمير شيحة صاحب المدينة إلى مكة، فى ألف فارس، من جهة صاحب مصر.
ثم إن السلطان نور الدين، جهّز ابن النصيرى والشريف راجحا إلى مكة فى عسكر جرار، فلما سمع بهم شيحة وأصحابه، خرجوا من مكة هاربين، فتوجّه شيحة إلى مصر قاصدا صاحبها الملك الصالح نجم الدين أيوب، فجهز معه عسكرا، فوصلوا إلى مكة فى سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وحجّوا بالناس.
فلما كانت سنة تسع وثلاثين، جهّز السلطان نور الدين جيشا كثيفا إلى مكة، فلما علم بهم العسكر المصرى الذى بمكة، كتبوا إلى ملكهم صاحب مصر، يطلبون منه نجدة، فأرسل إليهم مبارز الدين على بن الحسين بن برطاس، وابن التركمانى، فى مائة وخمسين فارسا، فلما علم بذلك عسكر صاحب اليمن، عرفوه الخبر، وأقاموا بالسرين، فتجهز السلطان بنفسه إلى مكة، فى عسكر جرار، فلما علم المصريون بقدومه، خرجوا هاربين، وأحرقوا ما فى دار السلطنة بمكة، فدخلها السلطان نور الدين، وصام بها شهر رمضان، وأرسل السلطان نور الدين إلى أبى سعد صاحب ينبع، فلما أتاه أكرمه وأنعم عليه واستخدمه، واشترى منه قلعة ينبع، وأمر بخرابها، حتى لا تبقى قرارا للمصريين، وأبطل السلطان نور الدين من مكة سائر المكوسات والجبايات والمظالم، وكتب بذلك مربّعة، وجعلت قبالة الحجر الأسود، ورتّب فى مكة مملوكه الأمير فخر الدين الشلاح وابن فيروز، وجعل الشريف أبا سعد بالوادى مساعدا لعسكره الذين بمكة ولم تزل مكة فى ولاية الملك المنصور، وبها نوابه حتى مات، إلا أن الشريف أبا سعد، تغلب على نائبه ابن المسيب، الذى ولى مكة بعد الشلاح، وأظهر أبو سعد أنه إنما تغلب على ابن المسيب، لما رأى منه من الخلاف فى حق الملك المنصور.
وممّا صنعه الملك المنصور من المآثر بمكة: أنه أرسل بقناديل من الذهب والفضة للكعبة، فى سنة اثنتين وثلاثين، على يد ابن النصيرى، وعلق القناديل فيها، وعمر بها المدرسة التى له بالجانب الغربى من المسجد الحرام، ملاصقة لمدرسة الزنجيلى، وتاريخ عمارتها سنة إحدى وأربعين وستمائة.