ذراعى، فوجدتها باردة، فبلغت به منزله، ثم رجعت إلى أبى، فقلت له: اعلم أنى أحسب المطلب سيموت، فقال: وما ذاك؟ فقلت له: توكأ على يدى، وذكر ابنه والحرمة التى كانت بينى وبينه فبكى، فقطرت قطرة من دمعه على ذراعى فوجدتها باردة. ولما صار المطلب إلى مضربه قال: هاهنا كان مضجع الحارث العام الأول، وجعل يردد ذلك حتى مات من ساعته.
ومن أخبار الحكم بن المطلب هذا فى الجود، ما ذكره الزبير بن بكار، لأنه قال: فأخبرنى عمى مصعب بن عبد الله، عن مصعب بن عثمان، عن نوفل بن عمارة، قال: إن رجلا من قريش، ثم من بنى أمية بن عبد شمس، له قدر وخطر، لم يسمّ لى، لحقه دين، وكان له مال من نخل وزرع، فخاف أن يباع عليه، فشخص من المدينة يريد الكوفة، يعمد خالد بن عبد الله القسرى، وكان واليا لهشام بن عبد الملك على العراق، وكان يبرّ من قدم عليه من قريش، فخرج الرجل يريده، وأعدّ له هدايا من طرف المدينة، حتى قدم فيدا (١) فأصبح بها، ونظر إلى فسطاط عنده جماعة، فسأل عنه، فقيل: للحكم بن المطلب، فلبس نعليه، ثم خرج حتى دخل عليه، فلما رآه، قام إليه، فتلقاه فسلّم عليه، ثم أجلسه فى صدر فراشه، ثم سأله عن مخرجه، فأخبره بدينه، وما أراد من إتيان خالد بن عبد الله القسرى، فقال له الحكم: انطلق بنا إلى منزلك، فلو علمت مقدمك لسبقتك إلى إتيانك، فمضى معه حتى أتى منزله، فرأى الهدايا التى أعد لخالد، فتحدث معه ساعة، ثم قال: إن منزلنا أحضر عدّة، وأنت مسافر، ونحن مقيمون، فأقسمت عليك إلا قمت معى إلى المنزل، وجعلت لنا من هذه الهدايا نصيبا فقام معه الرجل فقال: خذ منها ما أحببت.
فأمر بها فحملت كلها إلى منزله، وجعل الرجل يستحيى أن يمنعه منها شيئا، حتى صار معه إلى المنزل، فدعا بالغداء، وأمر بالهدايا، ففتحت، فأكل كل منها ومن حضره، ثم أمر ببقيتها ترفع إلى خزائنه، وقام فقام الناس، ثم أقبل على الرجل، فقال: أنا أولى بك من خالد، وأقرب إليك رحما ومنزلا، وهاهنا مال للغارمين، أنت أولى الناس به، ليس لأحد عليك فيه منّة إلا الله عزوجل، تقضى دينك.
ثم دعا بكيس فيه ثلاثة آلاف دينار، فدفعه إليه وقال: قد قرّب الله عزوجل عليك الخطو، فانصرف إلى أهلك مصاحبا محفوظا. فقام الرجل من عنده، يدعو له ويشكره، فلم تكن له همة إلى الرجوع إلى أهله، وانطلق الحكم معه يشّيعه، فسار معه شيئا، ثم
(١) فيدا: موضع فى منتصف طريق الحاج من الكوفة إلى مكة. انظر: معجم البلدان (فيدا).