إنما كان لجهلهم بحقيقة الأديان وما أوجب الله فيها من تعظيمه والثناء عليه بما هو أهله، ولو كان عندهم عقل لخشعت قلوبهم كلما سمعوا المؤذن يكبر الله تعالى ويمجده بصوته الندىّ ويدعو إلى الصلاة له والفلاح بمناجاته وذكره، فهو ذكر مؤثّر فى النفوس لا تخفى محاسنه على من يعقل الحكمة فى إرسال الشرائع ويؤمن بالله العلى الكبير.
(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ؟) أي قل يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى:
هل تعيبون علينا من شىء وتكرهوننا لأجله، إلا إيماننا الصادق بالله وتوحيده وإثبات صفات الكمال له، وإيماننا بما أنزل إلينا وبما أنزل من قبل على رسله، لقلة إنصافكم، ولأن أكثركم فاسقون خارجون عن حظيرة الإيمان الصحيح وليس لكم من الدين إلا العصبية الجنسية، والتقاليد الباطلة.
والخلاصة- إنه ما عندنا سوى ذلك، وهذا مما لا يعاب ولا ينقم منه، بل يمدح صاحبه ويكرم، لكنكم لفسقكم وخروجكم من حظيرة الدين الصحيح عبتم الحسن من غيركم، ورضيتم بالقبيح من أنفسكم.
روى ابن جرير عن ابن عباس قال «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبى رافع فى جماعة فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال:(أومن بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا لا نؤمن بمن آمن به فأنزل الله فيهم (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ... ) » إلخ.
وفى قوله:(وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) دقة فى الأحكام على الأمم والشعوب، إذ هو يحكم على الكثير أو الأكثر وما عمم إلا استثنى، وقد كان فى أهل الكتاب ناس لا يزالون معتصمين بأصول الدين وجوهره من التوحيد وحب الحق والعدل، وهؤلاء هم الذين سارعوا إلى الإسلام عند ما عرفوا حقيقة أمره وتجلى لهم صدق الداعي إليه