يعزون إلى الأمة ما يسمعون من بعض أفرادها وقد جرت سنة القرآن أن ينسب إلى المتأخرين ما قاله أو فعله سلفهم منذ قرون.
ولا عجب فى صدور هذا القول من بعض الأشخاص منهم، فإنا نرى من المسلمين فى عصرنا مثله فى الشكوى من الله عز وجل والاعتراض عليه عند الضيق وفى إبّان المصايب.
ثم دعا عليهم بالبخل والطرد من رحمته فقال:
(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) هذا دعاء عليهم بالبخل وانقباض الأيدى عن العطاء والإمساك عن الإنفاق فى سبيل البر والخير وما زالوا أبخل الأمم، فلا يكاد أحد منهم يبذل شيئا إلا إذا كان يرى أن له من ورائه ربحا، كما دعا عليهم بالطرد والبعد من رحمته وعنايته الخاصة بعباده المؤمنين.
وقيل إن المراد بغل الأيدى ربطها إلى الأعناق بالأغلال فى الدنيا أو فى النار أو فيهما، فقد نقل عن الحسن البصري أنه قال: يغلّون فى الدنيا أسارى، وفى الآخرة معذبين بأغلال جهنم، وقال فى تفسير اللعنة: عذّبوا فى الدنيا بالجزية وفى الآخرة بالنار.
ثم رد سبحانه عليهم ما قالوه وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء وأن كل ما فى العالم من خير هو سجل من ذلك الجود فقال:
(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) أي بل هو الجواد المتصرف وفق حكمته وسننه فى الاجتماع.
وتقتير الرزق على بعض العباد لا ينافى سعة الجود، وسريانه فى كل الوجود، فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة فى تفضيل بعض الناس على بعض فى الرزق بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق.
وعبر عن سعة الجود ببسط اليدين، لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ فى العطاء جهد استطاعته، يعطى بكلتا يديه كما قال الأعشى يمدح جوادا:
يداك يدا جود فكفّ مفيدة ... وكفّ إذا ما ضنّ بالزاد تنفق