والمعروف فى كتب السيرة أن اليهود كانوا يغرون المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ومنهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم، ومنهم من كان يؤوى أعداءهم ويساعدهم، ككعب بن الأشرف، وما سبب ذلك إلا الحسد والعصبية، وخوف الأحبار والرهبان من إزالة الإسلام لامتيازاتهم العلمية والدينية التي كانوا معروفين بها فى بلاد الحجاز، فكانت عداوتهم للمسلمين عداوة سياسية جنسية ليست من طبيعة الدين ولا روحه، والدليل على ذلك أن اليهود كان لهم ضلع بعد ذلك مع المسلمين فى الشام والأندلس، لما رأوا من عدلهم وإزالة الجور والظلم الذي كان عليه الروم والقوط.
وكذلك عداوة النصارى للمسلمين كانت سياسية وكانت على أشدها بينهم وبين الروم المستعمرين للبلاد المجاورة للحجاز كالشام ومصر، وكان نصارى البلاد أقرب ميلا إلى المسلمين بعد أن وثقوا بعدلهم، وزال عنهم ظلم الروم مع كونهم من أهل دينهم، وقد جرت العادة أن الناس يتبعون فى العداوة أو المودة ما تمليه عليهم منافعهم ومصالحهم.
(وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي إن ما يأتونه من عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإيقاد الفتن والحروب لم يكن بقصد الإصلاح للأخلاق وشئون العمران والاجتماع، بل كانوا يقصدون السعى فى الأرض للفساد، ويحاولون الكيد للمؤمنين ومنع اجتماع كلمة العرب، ويودون ألا يخرجوا من الأمية إلى العلم والعرفان، ولا من الوثنية إلى التوحيد، حسدا لهم وحبا فى دوام امتيازهم عنهم.
(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) فى الأرض بل يبغضهم، ومن ثم لا ينجح سعيهم، ولا يصلح عملهم، لأنهم يريدون أن يبطلوا حكمته تعالى فى صلاح الناس، وعمران البلاد.
ومن ثم أبطل سبحانه كل ما كاده أولئك القوم للنبى صلى الله عليه وسلم والعرب والإسلام، وأصلح بالإسلام ما كانوا خرّبوه من البلاد، ونصر المسلمين على كل من ناوأهم، وكذلك هم تركوا التوراة والإنجيل وهما قد أنزلا لهداية الناس إلى الصلاح والإصلاح، فزال ملكهم وسلط الله عليهم غيرهم.