جماعة قليلة من بيوتات كبار الدولة يعهد منهن فى العرف أن يأتمرون ويتفقن على الاشتراك فى مثل هذا المكر، إذ نساء البيوت الدنيا أو الوسطى لا تتجه أنظارهن إلى الإنكار على امرأة العزيز كبير وزراء الدولة، ولا إلى مشاركتها فى سلب عشيقها ولا إلى التمتع بجماله الساحر، وحادث مثل هذا جدير بأن ينتقل من بيت إلى بيت بوساطة الخدم، ويكون الشغل الشاغل للنساء فى مجالسهن الخاصة وسمرهن فى البيوت، وخلاصته:
(امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) وهذا كلام يقال للإنكار والتعجب من حصوله لوجوه عدة:
(١) إنها امرأة العزيز الأكبر فى الدولة، ولها المنزلة السامية بين نساء العظماء.
(٢) إن الذي تراوده عن نفسه هو فتاها ورقيقها.
(٣) إنها قد بلغ بها الأمر أن جادت بعفتها فكانت هى المراودة والطالبة لا المراودة المطلوبة.
(٤) إنها وقد شاع ذكرها فى المدينة لم ينثن عزمها عما تريد، بل لا تزال مجدّة فى نيل مرغوبها، والحصول على مطلوبها، كما يفيد ذلك قولهن (تُراوِدُ) وهو فعل يدل على الاستمرار فى الطلب.
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم:
(قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي قد شق حبّه شغاف قلبها أي غلافه المحيط به وغاص فى سويدائه، فملك عليها أمرها، فلا تبالي بما يكون من عاقبة تهتكها، ولا بما يصير إليه حالها.
ثم زادوا ذلك تأكيدا بقولهم:
(إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنا لنعلم أنها غائصة فى مهاوى الضلالة البينة البعيدة عن طريق الهدى والرشاد، ولم يكن قولهن هذا إنكارا للمنكر، ولا كرها للرذيلة، ولا نصرا للفضيلة، بل قلنه مكرا وحيلة، ليصل الحديث إليها، فيحملها ذلك