والخلق الأول فالطبيب يعرف كيف يولد الحيوان والأطوار التي يتدرج فيها منذ كان نطفة إلى أن صار إنسانا عاقلا والنباتي يعرف ما تكوّن منه النبات، وكيف ينمو ويتغذى، ولكنّ كلا منهما عاجز أن يعرف كيف وجدت أنواع الحيوان والنبات، ولا مادتهما أول مرة، فالإيجاد والخلق لا يمكن اكتناههما، كما لا يمكن اكتناه ذات الله تعالى وصفاته.
(٣) ما يتيسر للناس معرفته بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث كالعلوم الطبيعية والرياضية والزراعية والهيئة الفلكية كأسباب أطوار الهلال وتنقله من حال إلى حال وهو ما أشار إليه سبحانه بقوله: «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ» .
ومثل هذا ينبغى ألا يطالب الأنبياء ببيانه، لأن ذلك جهل بوظيفتهم، وإهمال للقوى والمواهب التي وهبها الله تعالى للإنسان ليصل بها إلى ذلك، وإلا وجب حينئذ أن يتلقّى كل شىء بالتسليم، كما يجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم أفرادها ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم، وإن كان الأنبياء ينبهون الناس إجمالا إلى استعمال الحواس والعقول فيما يزيد منافعهم ويرقى إدراكهم وشعورهم، يرشد إلى ذلك
قوله صلى الله عليه وسلم في واقعة تأبير النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم»
ومن حديث ذلك أنه عليه الصلاة والسلام نهي أهل المدينة عن تأبير نخلهم
: أي وضع طلع الذكر عليه فلم ينتج ثمرا جيدا، فرجعوا إليه فقال لهم هذه المقالة.
والتاريخ الذي سيق في القرآن لم يذكر على أنه قصص وأخبار للأمم أو البلاد لمعرفة أحوالها، بل سيق للعبر تتجلى في سياق الوقائع بين الرسل وأقوامهم بيانا لسنة الله فيهم، وإنذارا للكافرين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وتثبيتا لقلوب المؤمنين كما قال تعالى:«لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ» وما يروى فى التوراة من التاريخ المفصل من ذكر خلق آدم وما بعده، فهو مما ألحق بالتوراة بعد موسى بقرون.