بآخر تضيق دائرة وجوده إذا هو أخلد إلى الشهوات، وركن إلى اللذات، فيكون حظه من عمله كحظ الحشرات، يأكل ويشرب ويبغى على الضعيف ويخاف من القوى.
والله قد جعل عطاءه للناس معلقا على إرادتهم، ولا يقدر مثل هذا إلا القليل منهم.
(وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) الذين يعرفون أنعم الله عليهم ويستعملونها فيما يرقى بهم إلى مراقى الكمال، فيعملون صالح الأعمال التي ترفع نفوسهم، وتنفع أمتهم كأنس ابن النضر وأمثاله الذين جاهدوا وصبروا مع النبي صلى الله عليه وسلم بما كان لهم من الإرادة القوية التي كانت السبب فى انجلاء المشركين عن المسلمين.
وبعد أن ضرب الله تعالى لهم المثل فى أنفسهم بأنهم كانوا قبل الموقعة يتحرقون شوقا إلى لقاء العدو، ثم أصابهم ما أصابهم عند لقائه- ضرب لهم المثل بغيرهم من أتباع الأنبياء السالفين وربييهم الذين لم يلحقهم وهن ولا ضعف بعد قتل أنبيائهم، بل صبروا واحتملوا الإيذاء حتى تغلب الحق على الباطل.
وفى هذا من شديد التوبيخ لأولئك المنهزمين الذين لم يستنوا بسنة الربانيين المجاهدين مع الرسل صلوات الله عليهم، مع أنهم أحدر بذلك منهم إذ كانوا خير أمة أخرجت للناس فقال:
(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) أي إن كثيرا من النبيين الذين خلوا قد قاتل معهم كثير ممن آمن بهم، واعتقد أنهم هداة ومعلّمون، لا أرباب معبودون، فما وهنوا لما أصاب بعضهم من جرح أو قتل حتى ولو كان المقتول هو نبيهم نفسه، لأنهم يقاتلون فى سبيل الله لا فى سبيل نبيهم، علما منهم بأن النبي ما هو إلا مبلّغ عن ربه وهاد لأمته «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» وما ضعفوا عن جهاد عدوهم، ولا استكانوا ولا خضعوا له، ولا ولّوا الأدبار، بل ثبتوا بعد قتل نبيهم كما ثبتوا معه فى حال الحياة، إذ هم على يقين من ربهم فى أن الجهاد