وإنما يظهر ذلك على هذه الصورة لحكم يعلمها كمران المؤمنين على الصبر وتحمل المشاق وإظهار حال المنافقين، لأن الحقائق قد تخفى على أربابها، فينخدعون للشعور العارض بدون تمحيص ولا ابتلاء، كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه كما تقدم.
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أي إن الرماة الذين أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يثبتوا فى أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين، ما تركوا هذه المواقع إلا بإيقاع الشيطان لهم فى الزلل واستجراره لهم بالوسوسة، فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخّص فيها الإنسان سهلت استيلاء الشيطان على نفسه، فهم قد انحرفوا عن أماكنهم بتأوّل، إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة من هزيمتهم، فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنائم فوات منفعة ولا وقوع فى ضرر، ولكن هذا التأويل كان سببا فى كل ما جرى من المصايب التي من أجلها ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والذنب يجر إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة، وعلى هذا فالزلل الذي أوقعهم فيه الشيطان هو ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعا فى الغنيمة، وهذا التولي هو بعض ما كسبوا.
وفى هذا إيماء إلى سنة من سنن الله فى أخلاق البشر وأعمالهم، وهى أن المصايب التي تعرض لهم فى خاصة أنفسهم أو فى شئونهم العامة، إنما هى آثار طبيعية لبعض أعمالهم، ولكن الله قد يعفو عن بعض الأعمال التي لا أثر لها فى النفس وليست ملكة ولا عادة لها، بل صدرت هفوة غير متكررة، وهى التي عناها سبحانه بقوله:
«وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» وإليها الإشارة بقوله: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» .
فهذه المصايب والعقوبات، سواء أكانت فى الدنيا أم فى الآخرة- آثار طبيعية للأعمال السيئة.