بحثاً عن آثار مالك في مصر والمدينة والعراق والشام. وكان الولاة من عرب المشرق يعتمدون على فقهاء الحنفية في إدارتهم وأحكامهم، والمالكية يرون في أصحاب أبي حنيفة أنهم صنائع سلطان أكثر منهم فقهاء دين. فتصدوا لهم بالنقد اللاذع والاستنقاص في العلم والمروءة والدين. إلا أن رد الفعل عند الحنفية والولاة كان كبيراً فكثيراً ما تعرض أصحاب مالك في إفريقية إلى اضطهادات الأمراء، ولا شك أن ذلك كان برضا إن لم يكن بايعاز فقهائهم، وأدرك الرشيد أن المالكية تمكنت من نفوس الناس، وأنه لا قرار لإدارتهم ما لم يحظوا برضاهم، فأوصى الرشيد (وأظنه بإشارة من أبي يوسف القاضي) إبراهيم بن الأغلب عامله، أن يتخذ قاضيه من الفقهاء أصحاب مالك، بل عينه له تسمية، وكان عبد الله بن غانم القاضي تلميذ مالك وأحد كبار فقهاء القيروان. وكان من هذا أن اشترط في قبوله لمنصب القضاء أن لا يراعي في أحكامه اعتبارات القضاة السالفين، وأن الرعية عنده سواء أمام الشرع لا فرق في ذلك بين أميرها وخادمه وبين راعيها، فقبل الوالي شروطه على مضض وكان يحتمل منه هذه المثالية مكرهاً، نظراً إلى أن القاضي كانت تسميته من بغداد. ويوم مات ابن غانم وكان خال الوالي يبكيه، التفت ابن الأغلب إلى خاله الذي كان صديقاً للقاضي وقال له ما معناه: إنه لم يكن لنا معه دولة وما صارت لنا إلا اليوم. وكذلك كان سحنون فإن من شرائط توليه القضاء أن الأمير محمد بن الأغلب أعطاه كل ما طلب وأطلق يده في كل ما رغب حتى أهل بيته وقرابته وأعوانهم، الذين كانت للناس قبلهم ظلامات وأموال منذ زمان طويل، ولم يجرؤ عليهم من كان قبله. ولم يكن أتباع مالك من فقهاء القيروان يتمسحون بأعتاب الأمراء أو يقبلون هداياهم ولا ليلبوا رغباتهم إن أبدوها في رخصة أو فتوى ولا ليحضروا مجالسهم ولا أسمارهم أو أعيادهم. هذا السلوك المثالي من هؤلاء العلماء جعلهم في أعين الناس أقواماً صالحين وعلماء زهاداً ومعارضين باسم الدين لكل متجبر وجائر. وقد استمرت هذه