للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال الشاطبي: "فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد؛ والمعنى المقصود، ولا أيضا كل المعاني، فإن المعنى الإفرادي قد لا يعبأ به، إذا كان المعنى التركيبي مفهومًا دونه؛ كما لم يعبأ ذو الرمة ببائس، ولا يابس، اتّكالًا منه على حاصل المعنى مفهوم. وأبين من هذا ما في جامع الإسماعيلي المُخرَّج على صحيح البخاري عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ:

{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (٣١)} [عبس: ٣١] قال: ما الأب؟ ثم قال: ما كلفنا هذا. أو قال: ما أُمرنا بهذا. وفيه أيضا عن أنس: أن رجلًا سأل عمر بن الخطاب عن قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (٣١)} [عبس: ٣١] ما الأب؟ فقال عمر: نهينا عن التعمق والتكلف. ومن المشهور تأديبه لصبيْغ حين كان يكثر السؤال عن (المرسلات) و (العاصفات) ونحوهما.

وظاهر هذا كله إنه إنما نهى عنه لأن المعنى التركيبي معلوم على الجملة ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفي، فرأى أن الاشتغال به عن غيره - مما هو أهم منه - تكلف. ولهذا أصل في الشريعة صحيح، نبه عليه قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البَقَرَة: ١٧٧] إلى آخر الآية.

فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي لم يكن تكلفا، بل هو مضطر إليه، كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النّحل: ٤٧] فإنه سئل عنه على المنبر، فقال رجل من هذيل: التخوف عندنا: التنقص، ثم أنشده:

تخوّف الرّحلُ منْهَا تَامكا قردًا … كَما تَخوّف عُود النَّبْعَة السَّفَنُ

فقال عمر: أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم؛ فإن فيه تفسير كتابكم. فليس بين الخبرين تعارض؛ لأن هذا قد توقف فهم معنى الآية عليه بخلاف الأول. فإذا كان الأمر هكذا فإن اللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب؛ لأنه المقصود والمراد، وعليه ينبني الخطاب ابتداء. وكثير ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسُّنة، وتستعجم غرائبه على غير الوجه الذي ينبغي، فَتَسْتبهم على الملتمس، وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب، فيكون عمله في غير معمل، ومَشْيُه على غير طريق (١).


(١) الموافقات ٢ - ٦٦ - ٦٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>