هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في المعاملات والمناكحات فأجروها بالأصول الأولى على حسب ما استطاعوا وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك فعاملوا ربهم في الجميع ولا يقدر على ذلك إلا الموفق الفذ وهو كان شأن معاملات الصحابة كما نص عليه أصحاب السير ولم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها حتى صارت كالنسي المنسي وصار طالب العمل بها كالغريب المقصى عن أهله وهو داخل تحت معنى قوله عليه الصلاة والسلام بدأ هذا الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهور فيه العلماء على الجملة وأما النظر في الجزئيات فيختص بالعلماء واستقراء ما تقدم من الشريعة يبينه.
"فصل"
كان المسلمون قبل الهجرة آخذين بمقتضى التنزيل المكي على ما أداهم إليه اجتهادهم واحتياطهم فسبقوا غاية السبق حتى سموا السابقين بإطلاق ثم لما هاجروا إلى المدينة ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار وكملت لهم بها شعب الإيمان ومكارم الأخلاق وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامهم فكانت المتمات أسهل عليهم فصاروا بذلك نورا حتى نزل مدحهم والثناء عليهم في مواضع من كتاب الله ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقدارهم وجعلهم في الدين أئمة فكانوا هم القدوة العظمى في أهل الشريعة ولم يتركوا بعد الهجرة ما كانوا عليه بل زادوا في الاجتهاد وأمعنوا في الانقياد لما حد لهم في المكي والمدني معا لم تزحزحهم الرخص المدنيات عن الأخذ بالعزائم المكيات ولا صدهم عن بذل المجهود في طاعة الله ما متعوا به من الأخذ بحظوظهم وهم منها في سعة {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}[البقرة: ١٠٥] فعلى تقرير هذا الأصل من أخذ بالأصل الأول واستقام فيه كما استقاموا فطوبى له ومن أخذ بالأصل الثاني فبها ونعمت وعلى الأول جرى الصوفية الأول وعلى الثاني جرى من عداهم ممن لم يلتزم ما التزموه، ومن ههنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة ولا هي مما يلزمهم شرعا فيظن الظان أنهم