وهذا أصل بني عليه هذا الشرع "في جملة" أي في كل "الشؤون" أي الأمور سواء كانت عبادات أو معاملات أو غيرها كأمور الدعوة والتبليغ، وفي كل "الأحوال" التي تعرض للمكلفين - من مرض وصحة وقوة فهم، وضعفه وغير ذلك - فكُلٌّ مكلف بما جاء في الشرع على قدر وسعه "من غير إعنات" أي إدخال للمشقة عليه "ولا انحلال" من ربقة التكليف وتوابعه، فجاء - أي الشرع - جاريا على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال، كتكاليف الصلاة، والصيام والحج، والزكاة وغير ذلك مما شرع ابتداء من غير سبب ظاهر اقتضى ذلك، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل، كقوله - تعالى -: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ}[البَقَرَة: ٢١٥] وقوله - سبحانه -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}[البَقَرَة: ٢١٩]، وأشباه ذلك.
"فإن أصاب" - أي هذا الشرع - ووجد في مجرى تهذيبه للنفوس وتبليغه لما به قيام الخلق على الهدى والاستقامة شخصا "ذا انحراف" أي ميل "مفرط" مسرف متجاوز للحد في ترك الاعتدال "في الطرفين" وهما الأخذ بالحظوظ الدنيوية، والأخذ بمقتضيات التكليف، بأن مال عن الاعتدال المأمور به شرعا في أي من الطرفين "رده" الشرع "للوسط" الأعدل، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه.
"وانظر" على سبيل المثال "إلى" شأن "التدريج" الذي "في الخطاب" الشرعي فإنه ماض على مقتضى هذا الأمر - وهو الرد إلى الطريق الأوسط الأعدل - إذ جاء فيه تذكير الخلق بنعم الله - تعالى - وإقامة الحجج والبراهين القاطعة بصدق ما جاء فيه وصحته، وبيان شأن الدنيا وأمر الآخرة كل ذلك كان بالتدرج ثم لما آمن الناس خوطبوا "بحسب" ما يقتضيه إصلاح أحوالهم من "العتاب" وهو اللوم لمن ظهر عليه منهم الخروج عن الاعتدال إلى طرفي السرف، "والإعتاب" وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب. ويكون ذلك في خطاب الشرع لمن رجع عن الغي إلى الهدى.