للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثم حج بالناس فى سنة سبع وأربعين ومائة. وحج رابعا فى سنة ثمان وأربعين ومائة. وحج خامسا سنة اثنتين وخمسين. وسار فى سنة أربع وخمسين إلى الشام وبيت المقدس. ثم سار فى سنة ثمان وخمسين ومائة من بغداد إلى الكوفة؛ ليحج، واستخلف ابنه المهدى (١)، ووصاه وصية بليغة جّا، لولا طولها لذكرتها، وودعه وبكى، وأعلمه أنه ميت فى سفره هذا، ثم سار إلى الكوفة، وجمع بين الحج والعمرة، وساق الهدى وأشعره وقلده لأيام خلت من ذى القعدة، فعرض له ـ وهو سائر ـ وجع اشتد به حتى مات فى بئر ميمون خارج مكة لست خلون من ذى الحجة؛ فكتم الربيع الحاجب موته حتى بايع المهدى. فكانت خلافة أبى جعفر اثنتين وعشرين سنة تنقص أياما قد اختلف فى عدتها.

واتفق أنه لما نزل آخر منزل بطريق مكة نظر فى صدر البيت فإذا فيه بعد البسملة:

أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر الله لابد واقع

أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... لك اليوم من حر المنيّة مانع

فأحضر متولى المنازل، وقال له: «ألم آمرك الله أن لا يدخل المنازل أحد من الناس»، وكانت الخلفاء يبنى لهم فى كل منزلة ينزلونها بطريق مكة دار، ويعد لهم فيها سائر ما بحتاج إليه من الستور والفرش والأوانى وغير ذلك فقال: «والله ما دخله أحد منذ فرغ»، فقال: «اقرأ ما فى صدر البيت»، فقال: «ما أرى شيئا»؛ فأحضر غيره، فلم ير شيئا، فقال: «يا ربيع، قف بينى بين الحائط»، فقام الربيع بينه وبين الجدار، فرأى البيتين كما كان يراهما قبل وقوف الربيع، فعلم أنه قد نعيت إليه نفسه؛ فقال: «يا ربيع، اقرأ آية من كتاب الله»، فقرأ: «وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون» فأمر به فضرب ورحل من المنزل، وتطير، فسقط عن دابته فاندق ـ عنقه ـ وقيل: بل مات من مرضه، ودفن ببئر ميمون.

ومن بديع ما يحكى عنه: أنه لما حج وأشرف على المدينة النبوية ترجّل الناس له لما استقبلوه، إلا محمد بن عمران ـ قاضى المدينة ـ فقال المنصور: «يا ربيع، ما له لا يترجل لى؟ يتجالد علىّ ويمتنع مما فعله بنو عبد المطلب وبنو على، فلم ينزل إلى الأرض لما بصر بى؟ »، فقال الربيع: «يا أمير المؤمنين، لو رأيته على الأرض لرحمته ورثيت له من ثقله وعظمه»، فأمره بالدنو منه، فدنا منه راكبا عند تمهيد الربيع له العذر، فسأله عن حاله، ثم قال: «يا ابن عمران، أيما رجل أنت؟ لولا خصال فيك ثلاث كنت أنت الرجل،


(١) انظر: (تاريخ الخلفاء ٣١٣ وما بعدها).

<<  <  ج: ص:  >  >>