قال المجوزون للبيع والإجارة: الدليل على جواز ذلك، كتاب الله وسنة رسوله، وعمل أصحابه وخلفائه الراشدين. قال الله تعالى: (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) [الحشر: ٨]. وقال: (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [آل عمران: ١٩٥]. وقال: (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) [الممتحنة: ٩] فأضاف الدور إليهم، وهذه إضافة تمليك. وقال النبى صلى الله عليه وسلم، وقد قيل له: أين تنزل غدا بدارك بمكة؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع» (١)، ولم يقل: إنه لا دار لى، بل أقرهم على الإضافة، وأخبر أن عقيلا استولى عليها ولم ينزعها من يده، وإضافة دورهم إليهم فى الأحاديث أكثر من أن تذكر، كدار أم هانئ، ودار خديجة، ودار أبى أحمد بن جحش وغيرها، وكانوا يتوارثونها كما يتوارثون المنقول، ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم: «وهل ترك لنا عقيل من منزل»، وكان عقيل هو ورث دور أبى طالب، فإنه كان كافرا، ولم يرثه على رضى الله عنه، لاختلاف الدين بينهما، فاستولى عقيل على الدور. ولم يزالوا قبل الهجرة وبعدها، بل قبل المبعث وبعده، من مات، ورث ورثته داره إلى الآن. وقد باع صفوان بن أمية دارا لعمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ بأربعة آلاف درهم، فاتخذها سجنا، وإذا جاز البيع، والميراث، فالإجارة أجوز وأجوز، فهذا موقف أقدام الفريقين كما ترى، وحججهم فى القوة والظهور لا تدفع، وحجج الله وبيناته لا يبطل بعضها بعضا بل يصدق بعضها بعضا، ويجب العمل بموجبها كلها، والواجب اتباع الحق أين كان. فالصواب القول بموجب الأدلة من الجانبين، وأن الدور تملك، وتوهب، وتورث، وتباع، ويكون نقل الملك فى البناء لا فى الأرض والعرصة، فلو زال بناؤه، لم يكن له أن يبيع الأرض، وله أن يبنيها ويعيدها كما كانت، وهو أحق بها يسكنها ويسكن فيها من شاء، وليس له أن يعاوض على منفعة السكنى بعقد الإجارة، فإن هذه المنفعة إنما يستحق أن يقدم فيها على غيره، ويختص بها لسبقه وحاجته، فإذا استغنى عنها، لم يكن له أن يعاوض عليها، كالجلوس فى الرحاب، والطرق الواسعة، والإقامة على المعادن وغيرها من المنافع والأعيان المشتركة التى من سبق إليها، فهو أحق بها ما دام ينتفع، فإذا استغنى، لم يكن له أن يعاوض، وقد صرح أرباب هذا القول بأن البيع ونقل الملك فى رباعها إنما يقع على البناء لا على الأرض، فذكره أصحاب أبى حنيفة. فإن قيل: فقد منعتم الإجارة، وجوزتم البيع، فهل لهذا نظير فى الشريعة، والمعهود فى الشريعة أن الإجارة أوسع من البيع، فقد يمتنع البيع، وتجوز الإجارة، كالوقف والحر، فأما العكس، فلا عهد لنا به؟ . قيل: كلّ واحد من البيع والإجارة عقد مستقل غير مستلزم للآخر فى جوازه وامتناعه، وموردهما مختلف، وأحكامهما مختلفة، وإنما جاز البيع، لأنه وارد على المحل الذى كان البائع ـ